محمد بكري و"جنين 2023": ما رأيته في المخيّم

13 يوليو 2024
محمد بكري: ركزت في "جنين 2023" على الناس أكثر من المكان (جيسون لافيريس/ Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **محمد بكري: فنان فلسطيني مقاوم**
محمد بكري، مخرج وممثل فلسطيني، وُلد في قرية البعنة عام 1953، ودرس التمثيل والأدب في جامعة تل أبيب. استخدم موهبته لتوثيق جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وأفلامه مثل "جنين جنين" و"جنين 2023" تُظهر معاناة الفلسطينيين وروح المقاومة.

- **توثيق المجازر: بين الماضي والحاضر**
في "جنين 2023"، يوثق بكري مجزرة جديدة في مخيم جنين، مشيراً إلى أن الحياة تحت الاحتلال أصبحت شبه مستحيلة. يركز الفيلم على الناس ويُظهر الجوانب الفنية للأفلام الوثائقية.

- **الفن والمقاومة: رسالة إنسانية**
بكري يؤمن بأن المقاومة هي الدفاع عن النفس بأي وسيلة، ويرفض إثارة الشفقة في أفلامه. يؤكد أن الفن الفلسطيني لا ينفصل عن السياسة، ويحلم بترك أثر في السينما مثل محمود درويش في الشعر.

لم يخبُ حضور المخرج والممثل الفلسطيني محمد بكري عن المشهد السينمائي العربي والعالمي. تراه عبر شاشة اللابتوب، رغم رداءة الإنترنت، كما يمكن أن تراه على خشبة المسرح وشاشة السينما؛ قوي اللهجة، ورخيم الصوت، وتبدو لاحة الكبرياء والأنفة على مظهره. لا يزال أيضاً، كما كان في شبابه، مشتبكاً مع الاحتلال، لا يهدأ له بال إلّا حين يكشف ويوثّق جرائمه على أرض فلسطين. هذا الاحتلال الذي سرق هناءة حياته ووداعتها، فبات يتحدّث وقد اختلط في لهجته الفرح مع الحزن. يتحدّث عن الحياة بنبرة الغاضب، وعن الموت بلهجة الصلب الجسور المتمسك بالحياة.

في قرية البعنة في الجليل، التي ترتفع عن سطح البحر نحو 300 متر، ولد محمد بكري عام 1953، ثم انتقل إلى مدينة عكا المحتلة لاستكمال دراسته الثانوية. درس التمثيل والأدب في جامعة تل أبيب عام 1973.

لا تكمن أهميته في كونه خرق العزلة المفروضة على الإنسان الفلسطيني، وانطلق بعيداً بشهرته فحسب، وإنما بموهبته الاستثنائية وأفلامه التي يصرّ على أن تكون جزءاً من ذاكرة فلسطين، وأيضاً لكونه مبدعاً صاحبَ قضية... مبدعاً حوكم سنواتٍ وسنوات على جريمة لم يرتكبها، وإن ارتكب جريمة فهي إشهار الكاميرا وتوثيق ما ارتكبه الاحتلال بحق أبناء شعبه.

بعد 22 عاماً من مجزرة مخيم جنين التي ارتكبها الاحتلال في انتفاضة الشعب الفلسطيني الثانية، يعود محمد بكري إلى مخيم جنين، ليس بكونه مطمئناً على حال أهلها، بل موثقاً مرة أخرى لمجزرة جديدة.

كان من حسن حظنا أن التقينا به وحاورناه عن فيلميه "جنين جنين" و"جنين 2023"... عن الحياة والموت في كنف الاحتلال، عن مفهومي المقاومة والفن، وعن السينما والمسرح وكواليسهما، وعلاقتهما بواقعه الشخصي والعام.

في فيلمك الذي صورته أخيراً، "جنين 2023"، كأنك تقول ما أشبه اليوم بالأمس. تعود إلى المخيم الذي صوّرت مجزرته المهولة عام 2002، وتصور المذبحة الجديدة التي يشهدها قطاع غزة كله هذه المرة. هل أصبح لدى الناس، خصوصاً الأطفال الذين شهدوا مجزرة جنين 2002، تعاطٍ مختلف مع الموت؟

أصبح الموت بالنسبة لأهل مخيم جنين وباقي مخيمات اللجوء في فلسطين أمراً عادياً بسبب قسوة الاحتلال ووحشيته ولا إنسانيته، ما جعل الحياة شبه مستحيلة. وأصبح اليوم كالأمس والغد، وانعدم الأفق. لقد سألت أحد المواطنين في مخيم جنين عام 2002 بعد أن استشهد ابنه: "ماذا يعني لك الاستشهاد؟"، فقابلني بابتسامة فيها كثير من الاستغراب من السؤال، وقال: "اسأل أي إنسان في المخيم هذا السؤال وستجد أن الجميع على استعداد تام للموت من أجل التحرير والكرامة". أما بالنسبة للأطفال الذين عاشوا هذه الاقتحامات والاجتياحات والمجازر، فأعتقد أنهم يعيشون صدمة مستمرة تجعلهم يعشقون المقاومة ويرون فيها سبيلاً للخلاص، وربما أيضاً عدم اكتراث بالحياة، لأن حياة ابن المخيم، كما يحصل الآن في غزة، لا قيمة لها، فيجدون في الموت ارتقاءً إلى مكان آخر لا وجود فيه للوحوش القتلة، وإنما فيه معنى للكرامة.

الدمار الذي خلفه الاحتلال في جنين 2002 لم يكن موجوداً في جنين 2023، لذلك ركّزت في الفيلم الأخير على الناس أكثر من المكان، بينما في الفيلم الأول كان التركيز الأكبر على المكان المدمّر والناس في وسط هذا الخراب. الناس في "جنين جنين" لم يكونوا محبطين ولا مكسورين، في حين كان الدمار يحيط بالمكان. وبعد عام من المجزرة، أعيد إعمار المخيم. حينها أصبح المخيم معمَّراً والناس محطّمين، وهذا ما تعمّدت تصويره في الفيلم الثاني الذي أعتبره أنشودة مهداة إلى المقاومة.

في "جنين 2023" لا نرى ظهوراً لأي جندي إسرائيلي، خلافاً لـ"جنين جنين". اليوم باتت المجازر ترتكب من دون أن يعرف الضحايا والناجون وجوه القتلة، فالأسلحة المتطورة سمحت بقتل مئات الفلسطينيين دفعة واحدة من دون أن تحدق الضحية في وجه الجلاد. التطهير العرقي في الحرب الأخيرة بات أكثر وضوحاً، والعدوان يسري على كل الأنساق ويهدف إلى طمس وتدمير كل شيء. ما صعوبة توثيق الحرب الراهنة سينمائياً؟

لا في "جنين جنين" ولا في "جنين 2023" وجود لجنود الاحتلال، باستثناء مرورهم أمام الكاميرا، فأنا لم أصوّر أي جندي بكاميرتي، بل استعملت بعضاً من الفيديوهات التي وصلتني من مصادر مختلفة، سواء من نشرات أخبار أو "فيسبوك" أو غيرها. في الفيلم الأخير تعمّدت ألا أستخدم أي صورة لأي جندي؛ أولاً لأن الجنود لا يعنون لي شيئاً، وثانياً لأن ما يهمني هو روح الإنسان الفلسطيني المعذبة، ورغبتي بإيصال صوتها إلى العالم الأبكم والأعمى والأطرش.

هل تعتقد أن فيلماً وثائقياً عن المجازر لا يزال يحظى بمشاهدات في ظل الانتشار الهائل للمقاطع المصورة القادمة من غزة عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟ 

هناك فارق كبير بين الريبورتاج الصحافي أو المقاطع المصورة المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبين الفيلم الوثائقي الذي يمتاز بجوانبه الفنية، فالأخير يتقاطع مع الفيلم الروائي، كونه يصل إلى أعماق الناس، ويترك فيهم أثراً من دون أن يؤلم أرواحهم ويرهبهم، أو يعرضهم إلى صدمة نفسية. الفيلم الوثائقي أكثر استساغة للمتلقي من الريبورتاجات والمقاطع التوثيقية الخام التي تُستثمر في الإعلام، والإعلام وظيفته التهويل والتضخيم. سأعطيكِ مثالاً آخر. في عام النكبة، سمع الناس جميعهم عن مذبحة دير ياسين، والمتداول أنها كانت مذبحة مروّعة، اغتُصبت فيها النساء، وبُقِرت بطونهنّ. حين صوّرت فيلم "1948" عام 1998 زرت دير ياسين، نظراً إلى هول ما سمعناه عن مجزرتها. قابلت هناك شخصين، رجلاً وامرأة، في الثمانين من عمرهما، كان الاثنان في مقتبل الشباب في عام النكبة، وعندما تحدثت إليهما وجدت أن لدى الاثنين روايتين مختلفتين عمّا حدث. تحدث الرجل بموضوعية نظراً إلى أنه كان من المقاتلين الذين دافعوا عن البلاد، أما المرأة فتباكت، وهذا يعود إلى كونها عانت من صدمة نفسية، ما جعل الفرق شاسعاً بين ما قاله هو وما قالته هي. أعتقد بأنها ضخّمت الحدث، وحين سألت الرجل عمّا روته لي علّق بأن "ما شهدته دير ياسين في عام النكبة كان معركة وليس مجزرة". وحين خسر اليهود المعركة، انتقموا من الفلسطينيين بضرب قنابل على البيوت وعلى الأطفال والنساء، أي إن ما حدث في دير ياسين بدأ معركة ثم تحول إلى مجزرة. المرأة روت الحادثة بعاطفتها، أما المقاتل فتحدث بلغة باردة. وقال إن القتلى كانوا 92 شخصاً، وعرض عليّ أسماءهم، ولذلك اعتمدت شهادته أكثر من شهادتها، وندمت على وضعها في الفيلم، لأنني أتوخى الصدق.

لا أخفف من وطأة الحادثة، ولكن عليّ أن أكون دقيقاً جداً في نقل التفاصيل. في دير ياسين كان هناك من يهوّل من المجزرة كي يرهب الناس من الاحتلال، كما بُثّت إشاعات عن المجزرة لتصل إلى كل مناطق فلسطين، ما جعل البرجوازيين يغادرون فلسطين هاربين، والنتيجة أن الكاسب من هذه المعركة هو الاحتلال. الأمر ينطبق على ما يحدث في غزة اليوم. بالتأكيد هناك مجازر مروعة ووحشية، ولكن طريقة نقل الصورة غير صحيحة، لأن القائمين على الأخبار، ولغاية في نفس يعقوب، يهوّلونها. أعتقد أن ما يحدث أكثر توحشاً مما نراه، فالوحشية تكمن في التفاصيل التي لا نراها في الريبورتاجات الصحافية. ما يهمني بصفتي سينمائياً هو التفاصيل، وهذه التفاصيل عصيّة على النسيان وتترك الأثر الأكبر لدى المتلقي.

بالنسبة إليّ، لا أحب إثارة الشفقة والبكائيات والعويل. أميل إلى الموضوعية وإيصال الرسالة كما هي، بأسلوبٍ يحلو لي بصفتي فناناً. لا أريد أن أخرج عن الموضوع، ولكني أعتقد أن القصّ في الفيلم الوثائقي أكثر تعقيداً منه في الفيلم الدرامي حتى، لأن الأخير قائم على بنية درامية وحبكة وصراع، أما في الفيلم الوثائقي فصانع الفيلم يخلق القصة.

أذكر أني دخلت إلى المخيم في فيلم "جنين جنين" وكانت الجثث لا تزال عالقة تحت الأنقاض، وبعضها يجري انتشاله، ولكنني تعمّدت ألا أوجه كاميرتي نحو الجثث والدماء. في المقابل، أظهرت روح المقاومة والعنفوان والقوّة والعناد والتماسك والأمل.

الطفلة نجوى في "جنين جنين" هي اليوم امرأة ثلاثينية أم لأربعة أطفال. تحدثت في الفيلم بعبارات بسيطة عن المقاومة عبر الإنجاب. وبفضل هذه الفكرة غزة هي المنطقة الأكثر كثافة سكانية في العالم. هناك تنويعات ومرادفات لمصطلح المقاومة. ما المقاومة من وجهة نظرك؟

المقاومة بالنسبة إليّ هي أن تدافع عن نفسك بأي وسيلة متاحة، من دون تردّد أو خوف. وبإيمان بأنك صاحب حق، ونحن أصحاب حق، المقاومة بالنسبة إليّ ليست عقائدية وإنما أيديولوجية. فأنا أحارب الاحتلال بكل أنواعه ولا أحارب اليهود، حربنا مع إسرائيل ليست دينية، بل حرب رواية وحرب من أجل استعادة المكان والأرض. هنالك قلة من الإسرائيليين لا يمكن لي أن أعاديها. إيلان بابيه، على سبيل المثال، من اليهود الذين لا يمكن أن نحاربهم، إذ وضع كتابه "التطهير العرقي في فلسطين"، وقال لي في توقيع الكتاب في مسرح يافا، إنه استوحى فكرته من فيلمي "1948". وبالعودة إلى ما كنت أتحدث عنه قبل قليل، حول تأثير الفيلم الوثائقي، فأعتقد أن ميزته الأساسية هو أنه يبقى حياً عبر العصور، ويجب أن يعيش كما الموسيقى والمسرح والفن التشكيلي.

قدمت في كلا الفيلمين، "جنين جنين" و"جنين 2023" رواية الضحايا بلسانهم. المعاناة والمأساة التي صوّرتها أضفت مصداقية على رواية الضحايا. وعلى خلفية "جنين جنين" تعرّضت إلى المضايقات والاستدعاء للقضاء. عدا عن المبالغ الكبيرة التي اضطررت إلى دفعها. يمكننا في الحرب الراهنة أن نتأمل كيف تخشى إسرائيل من السردية الفلسطينية، وتسعى إلى تقييدها وتزييفها وطمسها. هل تعتقد أن في انتصار السردية انتصاراً للوجود الفلسطيني؟

سؤال مهم (يضحك). لا أعرف ماذا أقول لكِ فلدي الكثير لأقوله. منذ الكذبة الأولى التي اختلقها الاحتلال حين قال "أتينا شعباً بلا أرض، إلى أرضٍ بلا شعب" بدأت حرب الروايات. والحقيقة أنهم أتوا إلى أرض فيها مجتمع مدني مزدهر جداً، وكذلك مجتمع فلاحي مزدهر جداً. مدينة يافا مثلاً كان فيها سبع دور سينما، ومسارح، وثلاث صحف، وأربع مجلات، وكانت مركزاً ثقافياً واقتصادياً بفضل مينائها. التناقض في الروايتين بدأ مع قدوم الاحتلال، لذلك أي شيء يتعارض مع الرواية الإسرائيلية مرفوض جملة وتفصيلاً. هناك مثل شعبي يقول "الحرامي على رأسه ريشة"، وهم على رأسهم ريشة. منذ النكبة وهم مستمرون بأعمال القتل والتطهير العرقي.

ما يحصل في غزة لم يبدأ في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بل في 1948، وهم كالنعامة التي تطمر رأسها في الرمل. يقولون: "حربنا ضد حماس"، ويتناسون أن الحركة تأسست عام 1987، أما المقاومة الروحية والنفسية فبدأت عام 1948، حين بقينا في أرضنا رغماً عنهم، ونحتنا حياتنا في الصخر. والدي كان رجلاً أمّياً، لكنه كان دائماً ما يقول لي: "بدي قطّع من لحم كتافي وأعلمك". حاله حال كثيرين من أهل البلاد، كان يعرف أني حين أتعلم لن أكون عبداً لدى الاحتلال. تعلمت وكنت من المتفوقين في الجامعة لأنني عربي وفلسطيني، ولو لم أكن متعلماً لـ"دعسوا عليّ". كان عليّ أن أكون "سوبر مان" (رجلاً خارقاً) لأصبح مجرّد "مان" (رجل).

يقال البحر من أمامكم والعدو من خلفكم. وهذا صحيح، إما أن ننتصر في المعركة أو مصيرنا الغرق، لا خيار آخر. لذلك، يكره الإسرائيليون فيلم "جنين جنين"، لأنني وضعت فيه إصبعي على الجرح، وهم عاجزون عن تكذيبه. لذلك أيضاً، حاولوا أن يتهموني بالكذب والنفاق، وألصقوا بي تهماً كثيرة أخرى، كي يحطموا صورة محمد بكري، الرجل الجميل، أزرق العينين، والإنسان. مهما حاولوا لن يتمكنوا من إنسانيتي، بإمكانهم احتلال أرضي وبيتي ومالي، ولكن إنسانيتي فلن يتمكنوا من مسّها، وسأظل أبتسم رغماً عنهم إلى أن أموت.

تفتتح فيلمك "من يوم ما رحت" برسالة إلى الروائي الراحل إميل حبيبي، تحدّثه عما شاهدته في مخيم جنين. ما أفظع ما شاهدته في جنين أو أشد ما أثر بك ولم يغب عن ذاكرتك؟

كل مشهد لم أعرضه في الفيلم. هل شاهدتِ حين قلت للراحل حبيبي في الفيلم: "إيه يا أبو سلام، منيح اللي أنت مش معاي، وأنا بحكيلك هيك لأنو بديش أقلق منامك"؟ كنت أقصد فظاعة ما رأيته في جنين.

"من يوم ما رحت" فيلم عنك، عن حياتك، تفتتحه برسالة إلى حبيبي وتختمه بمشهد لك وأنت تقف أمام قبره. ما الذي يمثله إميل حبيبي في حياتك؟

أعتبر إميل حبيبي مثل والدي. كتب حبيبي رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبو النحس المتشائل". سعيد أبو النحس هو إميل حبيبي، وإميل حبيبي هو أبي، وأبي هو سعيد أبو النحس. في عام النكبة، خرج أكثر من 90% من الفلسطينيين إلى منفاهم القسري بالقوة، تبقى منهم 155 ألف فلسطيني في أرض فلسطين. وهؤلاء كلهم هم سعيد أبو النحس، لأنهم بقوا في أرضهم، حملوا هويات زرقاء وبقوا وسموا إسرائيليين، وبقوا. محمود درويش الذي أعتبره أعظم شاعر في العالم خوّنه العرب، كانوا يعتبروننا إسرائيليين، حتى محمود درويش أيقونة الشعب الفلسطيني خُوّن. ما بالك بمن بقي في الداخل ولا يمتلك جمال روح وفكر محمود درويش؟ هؤلاء اضطروا إلى أن يمشوا "الحيط الحيط ويقولوا يا رب السترة".

كان والدي يقول لي: "افعل ما شئت ولكن إياك والحزب الشيوعي الذي يمس بأمن الدولة، ويخرب البيوت". رباني أن أكون ولداً جيداً، ولكني فهمت في الصف الرابع الابتدائي أن طريق والدي غلط. قلت له: "يابا أنت غلطان" وضربني. كان والدي ضخماً وبنيته قوية. أبرحني ضرباً، مع ذلك قلت له: "الأستاذ الذي يعلمني في المدرسة كمان غلطان"؛ فردّ عليّ مستنكراً ومغتاظاً "شو بدك تغير العالم؟"، أجبت "آه، رح غير العالم". وقبل أن يموت قال لي "إنت الصح". كان عمري عند رحيله 48 عاماً.

والدك شاهد فيلمي "جنين جنين" و"1948" إذن.

نعم، شاهد فيلم "1948" وظهر فيه وقدم شهادته عن النكبة، وشعرت بأنه بشهادته في الفيلم كأنه يقول "إنت الصح". أما "جنين جنين" فكان بالنسبة إليه القشة التي قسمت ظهر البعير.

القصص المرهونة بوجود الاحتلال تحضر فيها مفردات الموت، ولكن ماذا عن الحياة، كيف تعرف الحياة في ظل وجود احتلال؟

أكره الاحتلال، أكرهه لأنه منعني من التواصل مع من أحب في العالم العربي وفي غزة، منعني من أن أعيش حياتي إنساناً عادياً. أجبرني على أن أكون "سوبر مان وأنا بديش أكون سوبر مان". جعلني أكره في بعض الأحيان، وأنا لا أقوى على الكراهية، جعلني أحقد، ولا أحب أن أحقد. الكراهية شعور طبيعي، ولكن الحقد شعور مرضي. حاول الاحتلال أن يسرق مني فرحي، قاومت بأسناني وأظافري كي لا يسرقه مني. الاحتلال حفر ندباتٍ لديّ، حاول أن يغيّرني ويسلب مني هويتي، حاول أيضاً أن يغريني. أذكر أني حين صورت "جنين جنين" اتصل بي رئيس دولة الاحتلال المتهم بقضايا اغتصاب، موشيه كاتساف. ذهبت والتقيته، استقبلني استقبال الملوك، واحتفى بي. لا أزال أذكر أني حين صافحته كان العرق يبلل كفّه، ما أثار اشمئزازي. حدثني أنه عندما كان وزيراً قد التقى بسياسيين عرب من الدول الشقيقة (بلهجة ساخرة). استمعت إليه 45 دقيقة يتحدث عن كل شيء. أخيراً، عرفت سبب الدعوة. قال: "قرأت المقابلة التي أجرتها صحيفة معاريف معك وصرحت فيها تصريحات متطرفة وقاسية، رغم أنك ممثل مبدع ومشهور وشخص محترم ومحبوب". أضاف: "نحن في حرب مع الفلسطينيين الحيوانات الذين قلت إنك تتفهمهم، وصورت فيلم جنين جنين الذي يتناولنا كما أنك تنتقد الحكم الإسرائيلي. لماذا تصرح بهذه التصريحات مع أننا نحترمك. صحيح أنك فنان كبير وأنا أحب فنك، لكن دعك من السياسة، لديك كثير من المؤيدين من اليهود والعرب، طالما يعجبك الحديث بالسياسة إلى هذا الحدّ لماذا لم تذهب إلى الكنيست؟".

بعد حديثه الطويل الذي حاولت قدر المستطاع اختصاره، ما كان عليّ إلا أن أخرجت فيلم "جنين جنين" من حقيبتي، وعرضت عليه أن يشاهده فرفض بشدة. سألته "لماذا ترفض؟ هل شاهدت الفيلم؟"، قال: "لا قرأت عنه". وكلامه هذا كان لسان حال الشارع الإسرائيلي. وأنهى كلامه بعبارة على شكل نصيحة: "سيبك من الفيلم، ضعه في الدرج، فهو ممنوع شو بدك بوجع الراس". كلامه جعلني أبدو كمن تلقى صفعة مدوّية أو خُبط على رأسه. وددت لو قلت له "سكر نيعك". خرجت من عنده، وكل ما كنت أريده هو أن أتنفس. سلكت طريقي نحو سينماتيك في القدس الغربية، طلبت قهوة واتصلت بمحاميتي، أخبرتها عن لقائي مع كاتساف، فاستنتجتْ من الحوار الذي دار بيني وبينه أن محكمة العدل العليا قررت أن تسمح بعرض الفيلم، فهناك قانون في إسرائيل يقرّر أن القضايا الساخنة تعرض على رئيس دولة الاحتلال قبل أن تخرج إلى الملأ. كان يعلم أن المحكمة قررت عرض الفيلم، وحاول أن يستعيض عن قرار المحكمة بأن يقنعني بالتخلي عن فكرة عرضه.

الفن الفلسطيني لا بد أن يشتبك بالسياسة. ألا ترى أنه بات يؤدي دوراً يتجاوز كونه فناً؟

بالتأكيد، إذا كان الفنان الفلسطيني صاحب مبدأ وصاحب انتماء إلى بلاده التي يقض مضجعه ويؤرق نومه التفكير في معاناة أهلها، وإن لم يكن الفنان بهذا الشكل فهو ليس فناناً، بالنسبة إليّ ليس بإمكاني أن أكون غير ذلك.

ثلاثون عاماً متواصلة و"المتشائل" تُعرض على الخشبة. لماذا يلقى هذا العمل ترحيباً من الجمهور مع اختلاف الزمان والمكان والظروف السياسية لعرضه؟

سأستأنف عرض "المتشائل". لم أكتف من عرضها بعد. سرّ "المتشائل" يكمن في عظمة الرواية، على الرغم من أن محمود درويش خالفني الرأي في جودتها، فهو أحب المسرحية، ولم يحب الرواية، وأيضاً بسبب الصدق والعمق في الضعف الإنساني الموجود في الرواية التي أعتبرها من أروع ما قرأت في الأدب العربي. والسبب الأخير هو أنني موهوب (مازحاً). شخصية سعيد أبو النحس بحد ذاتها مستقاة من الموروث الشعبي العربي. سعيد ليس إرثاً فلسطينياً وإنما هو إرث إنساني، ليس لسعيد هوية وطنية، بل هوية إنسانية، فأينما يوجد قوي وضعيف يوجد سعيد. "المتشائل" بالنسبة إليّ ليست مجرد مسرحية، إنها حياة وحب لا ينضب، كما سعيد الذي يأكل مئات الصفعات على وجهه ولا يتوقف عن الحب؟

ما زلت تحلم بتحويل "المتشائل" إلى فيلم سينما؟

أحلم...

هل لا بدّ للفلسطيني أن يعيش، كما "المتشائل"، متأرجحاً بين التشاؤم والتفاؤل؟

ليس الفلسطيني فقط، بل كل إنسان يشبه سعيد على وجه الكرة الأرضية، يتأرجح بين التفاؤل والتشاؤم، بين الذكاء الخارق والغباء المفرط، بين السذاجة والإبليسية، ويجمع في شخصيته كل التناقضات الموجودة في العالم.

تقول أحلم بأن أكون محمود درويش في السينما، ما الذي تقصده بهذه العبارة؟ وهل تقصدها بصفتك مخرجاً أم ممثلاً؟ 

أعني بهذه العبارة وَجْهي المعنى؛ المعنى الحرفي لها وهو أني أودّ أن أمثل شخصية محمود درويش في السينما، والمعنى الثاني أي أن أترك في السينما الأثر ذاته الذي تركه درويش في الشعر.

تشبهان بعضكما بعضاً.

نعم، ولكن أنا أجمل بقليل (مازحاً). 

يميل كثيرون إلى إضفاء هالة من الأسطرة حول الشخصية الفلسطينية، ووصفها بكل صفات البطولة، ما يمكن أن يجردها أحياناً من إنسانيتها ويصادر حقها في البكاء أو الانهيار أو إعلان اليأس. باعتقادك هل تحتاج صورة الشخصية الفلسطينية إلى الأنسنة؟

فقط إلى أنسنة، والنزول عن الشجرة.

المساهمون