في المغرب، يتجدّد اليوم، بحدّة، النقاش حول مدوّنة الأسرة، وضرورة إعادة النظر في بنودها، التي شكّلت عند إقرارها عام 2004 خطوة مهمّة في طريق إعادة الاعتبار إلى حقوق المرأة، وتعزيز صورة المغرب كبلدٍ يسعى لتوطيد قِيَم الحداثة والدولة العصرية.
لعلّ من حسنات السينما أنّها تستبق ما يمور في المجتمع، مُركّزة على الجانب الإنساني للقضايا، بعيداً عن مزالق الأدلجة ومحارج التوظيف السياسوي. بعدٌ إنساني لثغرات مسطرة "التطليق للغيبة" (التطليق لغياب الزوج)، قبضت عليه المخرجة المغربية الشابّة مريم عدو، في فيلمها الوثائقي الطويل الأول "لمْعلْقات"، الذي يقتفي محنة غيثة ولطيفة والسعدية. 3 نساء من مدينة بني ملال (وسط المغرب)، تخلّى زوجان عن اثنين منهنّ، لطيفة والسعدية، وزوجُ ابنة غيثة، من دون أنْ يعلنوا وجهتهم، فبقين مُعلّقات، لا هنّ متزوّجات ولا هنّ مطلّقات. إنهنّ بين مطرقة متطلّبات العيش، التي تفرض عليهن مهناً موسمية أو هشّة، وسندان بيروقراطية قضائية يتُهن في سراديبها، خاصة أنهنّ غير متعلّمات.
اختيارات إخراجية قوية أقدمت عليها مريم عدو، أبرزها ترك المحكمة خارج حقل القصة، لتترسّخ بشكل أقوى فكرة عنها في ذهن المشاهد، من خلال قرارات عبثية، كطلب إعادة صوغ عبارة "ذو عنوان مجهول" إلى "مجهول العنوان"، التي ترسل منه، كما في "قلعة" كافكا، أو التركيز على لحظات العيش، البسيطة في ظاهرها، لكنّها حمّالة دلالات عميقة، كمشهد لطيفة (المتوفاة قبل إطلاق الفيلم)، المنشغلة بنسج الزرابي التقليدية، الذي لا يمكن إلا التذكير بأسطورة بينيلوبي الإغريقية، بشكلٍ معكوس، حين تنقض ليلاً ما حاكته يداها نهاراً، في إحالة بليغة إلى الشرط السيزيفي لسعي السيّدات الـ3 لكسب حريتهنّ.
مقاربة الاشتغال المتأنية دامت 6 سنوات، تخلّلها بحثٌ دقيق، وتمعّنٌ في التفاصيل، وحساسية رؤية تتبدّى في التقاط القصص الصغيرة، التي تدعم خط الحكي الأساسي، كالكاتب العمومي وشخصيته المتفرّدة في استقبال النساء القادمات من المحاكم، واستشفاف خبايا القضايا من وسط ارتباكهنّ وتعابيرهنّ العفوية، وإيحاءات الاغتراب في يوميات "المعلّقات"، في مشاهد تقول، بلغة الصمت والظلال والزمنية الطافية، كيف أضحين رهائن للاغتراب المجتمعي، والاضطراب النفسي، والمستقبل الضبابي.
عرض "لمْعلْقات" في الدورة الـ22 (16 ـ 26 سبتمبر/ أيلول 2022) لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة"، ومُنح تنويهٌ في المسابقة الرسمية للفيلم الوثائقي، علماً أنّه يستحقّ الفوز بإحدى الجوائز. لكنّ الأفلام تدين، لحسن الحظ، بوقعها وأثرها، لما تختزنه من مقوّمات جمالية، وما تتركه من أثرٍ، أكثر مما تدين للجوائز. الدليل في هذا الحوار مع مريم عدو، حيث يُستشفّ الصدق في المقاربة الإنسانية، والرهافة في الاختيارات الفنية، تصويراً ومونتاجاً، والتأثير غير المتوقّع في مرحلة التلقّي.
(*) كيف جاءت فكرة الفيلم، وكيف تطوّرت إلى مقاربة اشتغال؟
انطلقت الفكرة من كبسولات مؤسّسية، كنت أنجزها عام 2013، بمناسبة مرور 10 سنوات على دخول مدوّنة الأسرة حيّز التطبيق في المغرب. كان هناك مشروع بين "إينيفام" (صندوق الأمم المتّحدة الإنمائي للمرأة ـ المحرّر) ووزارة العدل، يقتضي تخصيص كبسولات لمحاكم نموذجية، نصوّر في كلّ واحدة منها موضوعاً معيّناً، كالحضانة أو النّفقة أو ثبوت الزوجية، التي تشكّل الخطوط العريضة للمدوّنة.
كان مقرّراً تصويرُ الموضوع الخاص بالطلاق الشقاق في طنجة. حين بدأت التصوير، كنت أتمتّع بحقّ مطلق في الولوج إلى محكمة الأسرة، في المدينة نفسها، بحكم ترخيص وزارة العدل. كنت مُلزمة بإنجاز "ميكروتروتوار" مع نساءٍ، يسلكن مسطرة "التطليق للغيبة"، وبتوضيح كيف أنّهن يتمتّعن بمرافقة اجتماعية، ويتلقّين مطويات فيها شرح عن أنّ حكم الطلاق لا يتجاوز أجل الحصول عليه 3 أشهر من بداية المسطرة. بينما كنت أصوّر، أتت نساء إليّ رفقة بناتهنّ الشابات والجميلات، ليشتكين قلّة حيلتهنّ، وكيف يضيع شباب كريماتهنّ في انتظار الطلاق لمدّة تبلغ 4 سنوات، من دون جدوى، بعد تغيّب أزواجهنّ.
سأحكي لك شيئاً، أفصح عنه لأول مرة علناً، بحكم علمي بتقادم القضية: لحاجتي إلى "دراسة حالة"، أي امرأة تقبل أنْ أصوّر معها في طور سلكها مسطرة الطلاق، أخبرني رئيس محكمة الأسرة في طنجة أنّه وجد سيدة تقبل بهذا. في التصوير، كانت تطلب مني، كلّ مرة، التدخّل لدى وكيل الملك، لأنّها ظنّت أنّ لديّ نفوذاً. عند نهاية التصوير، أسرّت لي كيف أنّها تقدّمت سابقاً بدعوى طلاق في مدينة "القصر الصغير"، رُفِضَت، لعدم معرفة مكان زوجها، وأنّها لا تزال لا تعرف له عنواناً، لكنّها مُجبرة على الكذب، كي تُقبل الدعوى الجديدة. قيل لها إنّها، إذا لم تسلك مسطرة "طلاق الشقاق"، لن تحصل أبداً على حريتها، فقبلت أنْ تصوّر معي، فقط إذا تدخّلت لفائدتها لدى وكيل الملك. لم أفضح سرّها، طبعاً، لكنّي أحسست حينها، لأول مرة، بشيء يحرّكني نحو هذا الموضوع.
(*) هل تلقّيت هذا بمثابة إشارة إلى ضرورة فعل شيء ما أعمق، لفهم أوضاع هؤلاء النساء؟
هذا دفعني إلى أنْ أبدأ البحث، عام 2014. طرحت السؤال في المحتكم، فأدركت أنّ هناك إشكالية حقيقية وراء "التطليق للغيبة". أول ما تذكّرته، نشرات الراديو (تذييع خبر دعوى الطلاق، وفي حالة عدم حضور الزوج في الآجال الممنوحة، تقضي المحكمة بـ"تطليقه للغيبة" ـ المحرّر)، التي كانت تُمرَّر الساعة الـ4 بعد الظهر، وكانت تثير انتباهي بغرابتها، فبدأت البحث عنها لأجد أنّها لا تزال تذاع، لكنْ في الساعة الـ11 مساءً.
أول مشهد تخيّلته وكتبته، يتمثّل برجالٍ منهمكين في لعب الورق في المقهى، بينما تُسمع هذه النشرات على المذياع. حاولت تخمين ردّة فعلهم، ثمّ كيف أستعمل هذه الإعلانات كوسيلة انتقال صوتي إلى بيوت النساء.
(*) كيف انعكست نتائج البحث على مقاربتك؟ هل غيّرت شيئاً من تصوّرك للموضوع؟
في البداية، كان هاجسي الأساسي أنْ أجد نساءً يقبلن أنْ يتصوّرن معي. نساء كثيرات وافقن، لكنّهن اشترطن حجب وجوههنّ في الصورة. عدت إلى طنجة، وعرفت أنّ رئيس المحكمة تغيّر. وكيل الملك استقبلني، ووعدني بالمساعدة في إيجاد نساء أخريات. كنت أذهب، أساساً، إلى المحاكم، نظراً إلى أنّ الموضوع "فضاء التقاضي"، وأحظى بالاستقبال تارة، وبالرفض تارة أخرى. كان هناك من يقول لي إنّ إشكالية "تطليق الغيبة" لم تعد مطروحة، فقط ليتفادى تعقيد الإفصاح عن سرية الملفات.
بدأت أصوّر مع سيّدة، في القنيطرة، أساساً، وبانتظامٍ أقلّ مع أخرى من طنجة. اقتنعت باكراً بأنّ قصص هؤلاء النساء متشابهة، فلم أواجه بالتالي أي صعوبة في الكتابة، لأنّي كنت أرى أين ستؤدّي بي الطريق في النهاية. ما حدث أنّي اكتشفت أنّ السيدة الطنجاوية كانت، في قرارة نفسها، مقتنعةً بأنّ زوجها سيعود، لأنّه لا يزال يحبّها، رغم أنّ "إحداهنّ لعبت بعقله". لذا، كانت متردّدة في إتمام المسطرة. هذه حالة تكرّرت مع نساء كثيرات قابلتهنّ لاحقاً. أنجزت "ثريلر"، انطلاقاً ممّا صوّرته. وبينما كنت في عطلةٍ، اختير مشروع الفيلم في ورشة كتابة في "مهرجان القاهرة"، من "سكرين أوف بيروت"، بإشراف هادي زكّاك وتهاني راشد. في النقاش، كانا يقولان لي إنّ موضوع الاشتغال مهمّ، لكنه مُشتّت نوعاً ما، وإنّه ينبغي لي أساساً التركيز على مدينة واحدة، وتحديد اختياراتي للشخصيات، ولماذا 3 نساء لا واحدة، أو اثنتان؟
التركيز على فضاء واحد حاسمٌ. بمجرّد رجوعي من مصر، سمعت أنّ بني ملال، باعتبارها منطقة هجرة مهمّة إلى إيطاليا وإسبانيا، تُسجّل أكثر النسب لتخلّي الرجال عن زوجاتهنّ من دون تطليقهنّ. قرّرت الذهاب إلى هناك، لأول مرة في حياتي. اتصلت بصديقتي، المخرجة زينب الشفشاوني، وذهبنا معاً، لأنّي لا أعرف وسيلة نقل أفضل إلى هناك. وصلنا يوم خميس. عندما ذهبنا إلى محكمة الأسرة، وجدنا أنّ هناك "كوكتيل" للاحتفاء بمناسبة ما. طلبت مقابلة رئيس المحكمة، الذي رحّب بي، ووعد بمساعدتي، لكنّه طلب مني العودة يوم الاثنين، لأنّ المحكمة تحتفل بتعيين قضاة جدد. عدنا إلى الفندق. مزاجي سيئ، لأنّنا كنّا نعتزم المكوث في بني ملال 3 أيام فقط، وها نحن مجبرتان على الانتظار إلى يوم الاثنين. اقترحت صديقتي التوجّه إلى فضاء "عين أسردون" السياحي. هناك، وجدنا نساءً يتحدثّن معاً على ضفاف الشلال، ويضعن زخارف الحنّاء على كفوفهنّ. فوراً، رأيت المكان فضاءَ حرية مطلقة للنساء. لم أدرك عندها أنّه سيصبح في قلب التصوّر الفنّي للفيلم.
(*) يعني بفضل بني ملال ومدار "عين أسردون"، تحديداً، خرجتِ من التصوّر القانوني للموضوع، إلى أفقٍ إنساني، لمقاربة حالة هؤلاء النساء.
تماماً. اقتربت منهنّ وسألتهنّ الجلوس إليهنّ. تحدّثنا. أخبرتهنّ عن موضوع بحثي، وإذْ بـ"النّقّاشة" (السيدة التي تضع زخارف الحناء على أكفّ النساء ـ المحرّر) ترفع رأسها قائلةً: "هذه بالضبط حالة ابنة صديقتي، التي طلبت منها المحكمة جمع 12 شاهداً على تغيّب زوجها". قلت لها: "خذيني إليها، أرجوك". هكذا، التقيت غيثة، التي رحّبت بي في منزلها، قائلة أنْ لا مشكلة لديها في التصوير، إذا وافقت ابنتها، المتزوّجة في الدار البيضاء. اتصلت بها، لأشرح لها الأمر. أجابت: "لا مشكلة لديّ إنْ وافق خالي" (تضحك). هاتفت أخا غيثة، فرحّب بالتصوير. بعدها، تعرّفت إلى الفقيدة لطيفة، عبر "النّقّاشة" نفسها، لكنّها ظلّت متردّدة، حتى بدأت التصوير فعلياً مع غيثة. عندها، أصبح تصوّر 3 شخصيات مهمّاً بالنسبة إليّ، لأنّي صوّرت حضور 12 شاهداً إلى بيت غيثة (شهود على غياب الزوج يشترط أنْ يكونوا بالغين عند تاريخ عقد الزواج ـ المحرّر). لكنّي أفلتّ جوانب مهمّة منه، لأنّي لم أحصل على رخصة تصوير.
ظلّت غيثة تنتظر تذييع حالتها عبر الراديو. كانت تُلزمني حالات أخرى، أتبع معها القصّة منذ البداية. تلقيت اتّصالاً من السعدية، التي أفصحت عن رغبتها في توثيق تجربتها، بعد أنْ سمعت عنّي من "النّقّاشة". مع إصرارها، قرّرت أنْ أدمجها في الفيلم كشخصية ثالثة. فهمت، بعدها، أنّ البحث ينبغي ألا يكون رسمياً، بل عفوياً، فصرت أذهب إلى المداشر والمدن المجاورة، كـ"الفقيه بن صالح"، وأرتاد صالونات التجميل، وأختلط بالنساء في الأزقّة، حيث يقمن بجزءٍ من أشغال البيت في الخارج، وفق العادات. التقيت أكثر من 100 سيّدة. في فترة معيّنة، صار هاتفي عبارة عن مكتب استقبال لجمعية نسائية، لأنّ النساء كنّ ينادينني باستمرار، ليشاركن معي حكاياتهنّ.
(*) كيف تطوّرت علاقتك الإنسانية مع النساء الـ3؟ هل كان سهلاً كسب ثقتهنّ؟
في الحقيقة، لم أكن أمضي معهنّ وقتاً كثيراً قبل بدء التصوير. التقيت غيثة في غمرة بحثها عن 12 شاهداً، قبل انقضاء مهلة الأيام الـ4 التي منحها القاضي لها، فاضطررت إلى التصوير بلا رخصة. رغم ذلك، انتظرتني قبل أنْ تذهب إلى "قلعة السراغنة"، حيث تسلك مسار التقاضي. كنت أودّ تصوير سعي إخوتها هناك لإيجاد الشهود، وكل ما يرتبط بذلك من صعوبة، لأنّ هناك طقوساً معيّنة ترتبط بهذا التقليد، خصوصاً أنّي وجدت فيه فرصة لموازنة الطرح، بالقول إنّ هناك أيضاً رجالاً يقفون في صفّ النساء، للخروج من نمطية النماذج الذكورية السيئة.
لكنْ، بحكم عدم توافري على ترخيص تصوير، يكفل لي حرية التنقّل، لم أتمكّن من التصوير في الشارع. كان هاجسي الأكبر ألا أسبّب مشاكل للشخصيات، قد ينتج منها انقطاع رابط الثقة الذي يجمعني بهنّ.
(*) لماذا تأخّر حصولك على رخصة تصوير؟
واجهت تعقيدات إدارية كثيرة، ربما بسبب موضوع الفيلم، وارتباطه بمدونة الأسرة. طُرحت عليّ أسئلة كثيرة، ولزم انتظار مساطر طويلة من البحث لأسباب أجهلها. ربما كانت هناك شكوك تحوم حول التصوير، بسبب حساسية الموضوع، ولكون بني ملال منبعاً للهجرة السرّية أيضاً. إضافة إلى أنّي أصوّر هناك للمرة الأولى. تطلّب الأمر عاماً كاملاً، من دون مبالغة.
(*) كيف ناقشت أسلوب تصوير الفيلم مع مدير التصوير؟
اتفقنا على أن نكون قريبَين، قدر الإمكان، من الشخصيات، باستعمال عدسات ذات زاوية واسعة، غالباً. هناك لقطات كنتُ أحرص على التقاطها، كالنساء اللّواتي يسترقن النظر من النوافذ، أو لحظات الصمت الطويل، التي حاولتُ جعلها تعبيراً عن وضع النساء، وتطلّبت أنْ أجعلهنّ ينسين حضور الكاميرا. في محيط كلّ شخصية، هناك أشياء وتفاصيل تعبّر، مجازاً، عن شرطها، بطريقة ما. مثلاً، وجدت في منزل السعدية ساعات ومنبّهات متوقّفة عن العمل. كلّ الساعات لا تشتغل. بينما كنت أصوّر في الصمت الذي يلفّ المشهد، قلت لنفسي إنّ بعض المشاهدين سيظنّون أننا نحن من أزلنا البطاريات (تضحك).
(*) نشاهد في الفيلم كيف أنّ النساء يمارسن مهناً موسمية كثيرة، والهشّة، ويغيّرن مسكنهنّ، ما يمنح شعوراً بعدم الاستقرار. أهذا طاغٍ في حياتهنّ، أم أنّك اخترت التركيز عليه؟
اكتشفت هذا في التصوير. غيثة مثلاً سبّبت لي دواراً، لأنّي كلّما عدت إلى بني ملال، أجدها في منزل مختلف. كانت تكتري مسكناً جديداً كلّ 3 أشهر تقريباً. كان عليّ التقاط هذا الجانب بتصوير انتقالها إلى مسكن جديد. مارَسَتْ أيضاً مهناً أخرى، لم نرها في الفيلم: عاملة نظافة في فندق ومقهى. من الأشياء التي تجبرهنّ على امتهان وظائف غير قارّة، اضطرارهنّ إلى التغيّب عن العمل لمتابعة الإجراءات في المحكمة.
(*) ماذا عن بقاء المحكمة خارج حقل الحكاية، الذي يشكل أحد أقوى اختيارات الفيلم، لأنّه أنتج إحساساً شبيهاً بقصر كافكا، حيث تأتينا قرارات غريبة تعطينا فكرة عنه من دون أن نراه؟ أهذا مقصودٌ، أم ترتّب عن إكراه عدم إتاحة التصوير بها؟
في البداية، كنت أتساءل: هل أصوّر في المحكمة أم لا؟ ثمّ فكّرت في تسجيل الأصوات في الجلسات، وأوضّبها مع مشاهد قاعة محكمة فارغة، حتى أتجنّب المشاكل مع من لا يرغبون في الظهور أمام الكاميرا. ثمّ قرّرت، في مرحلة ثالثة، ألا أصوّر إطلاقاً في المحكمة. اكتشفت أنّ كلّ شيءٍ، عندما أذهب إلى المحكمة، يتبدّل في حضور فريق التصوير والكاميرا، فتصبح الأمور غير واقعية نوعاً ما. في النهاية، قلت لنفسي إنّه ينبغي لي ألا أجد منفذاً إلى المحكمة، مثلما ليس لهؤلاء النساء ولوج إلى العدالة.
(*) هناك أيضاً فضاءات ضيّقة، كمكتب الكاتب العمومي. أعتقد أنّ التصوير فيها لم يكن سهلاً.
كنّا مُجبرين على استعمال كاميرا محمولة على الكتف. الامتياز مع الكاتب العمومي أنّه وافق منذ اللقاء الأوّل، ومنحنا بطاقة بيضاء. صوّرنا معه في مكتبه، وفي نقاشه مع السيدات، وحتّى عندما يفتح الأبواب ويرتّب أغراضه. كنت تحت السحر كمعظم المُشاهدين الذين أعجبوا بشخصيته. كان ينظر إليّ، وهذه حالة جميع من صوّرتهم، على أنّي شخص لا يعرف ماذا يفعل. خصوصاً أنّي أغيب، ثمّ أعود لأصوّر الأشياء نفسها تقريباً كلّ مرّة.
لأنّي أنجز عملاً ينبني على الملاحظة، أعيد تصوير الأشياء نفسها مراراً، بحثاً عن تفاصيل اليومي، والانخراط في زمنية الشخصيات. لكنّ هذه الأخيرة لا تفهم لماذا أصوّر الأشياء نفسها كلّ يوم، فلا تأخذني على محمل الجدّ، بطريقة ما. هذا يخدم مصلحتي، لأنّه يساهم في أنْ أصبح، في مرحلة معيّنة، غير مرئية بالنسبة إليهم، فينسون وجودي.
اللقاء مع الكاتب العمومي محض صدفة سعيدة، أو هدية من تلك التي تمنحها الحياة بين فينة وأخرى. إلى ذلك، مشاهدون كثيرون أعجبوا بمشهد التقاط غيثة أسمطة الموائد من فوق أشجار الرّمان، والبعض تصوّر أننا نحن من وضعناها هناك. الحقيقة أنّي ذهبت إلى حفلة الزفاف، بنيّة ألّا أصوّر مظاهرها، وأركّز فقط على اشتغال غيثة في المطبخ، وإذا بي أجد أولاً أنّ خيمة العرس شفّافة.
(*) منح هذا مشاهد ظلال صينية رائعة، ملتقطة من خارج الخيمة.
نعم. خصوصاً أنّه يعبّر عن فكرة تغرّب غيثة عن فكرة الاحتفال نفسها. هذا تفصيل واقعي، لا يمكنك تخيله أو اختلاقه حتى لو رغبت في ذلك. هديّة غير متوقّعة. اكتشفت الخيمة، وما إن تراجعت قليلاً إلى الخلف، حتّى رأيت الأسمطة المبسوطة على الأشجار، والمنظر الشاعري للرمّان المتساقط على الأرض.
(*) ماذا عن مشهد النقاش الدائر بين الرجال في "الموسم" (الاحتفال بقيم الفروسية في القرى المغربية ـ المحرّر)، حيث اشتغلت لطيفة؟ كيف صوّرته؟
لم أحضّر تصوير هذا المشهد، لأنّي كنت أصوّر لطيفة في المطبخ. ناقشته مع محمد علي الصغراوي، مدير التصوير، وتكلّف هو بالتقاطه. بعد موافقة الرجال على التصوير، اتفقت مع أحدهم على أنْ يكون محرّك النقاش. لم أكن أعرف ما سينتج من هذا المشهد، ولو اقتحمت عليهم حميميتهم لما خرج النقاش بالعفوية نفسها، على الأرجح.
(*) كم أخذ منك التصوير من الوقت، في المجمل؟
بدأ التصوير فعلياً عام 2016، وانتهى عام 2019. بدأت المونتاج بالموازاة مع التصوير، سعياً لصوغ هيكل الفيلم. لديّ حوالى 70 ساعة من المادة الفيلمية، وهذا كثير نسبياً.
(*) كيف اشتغلتِ على المونتاج؟
قمت بالمونتاج بالتوازي مع التصوير، كما أسلفت. هذا ضروري لوثائقيّ الملاحظة، لأنّه يساعد في توضيح الرؤية، واختيار الطريق التي ستتبعها. كالقصص الصغيرة، التي تغذّي الخطوط الكبيرة للسرد، وقرار الاحتفاظ بها أو لا. في مرحلة معيّنة، قرّرت أيضاً تشذيب اللقطات التي تحتوي على حوار، لفائدة مقاربة بصرية أكثر حسية. هذه أشياء يُحبّذ أنْ يحسم فيها المخرج بنفسه، قبل أن يمنح المكلّف بالمونتاج نسخة أولية يعمل عليها. هذا ما فعلته عندما حصلت على نسخة من 9 ساعات تقريباً. أما المونتاج النهائي في فرنسا، فتعلّق بتفاصيل صغيرة، ترتبط بترتيب بعض اللقطات، وإيقاع بداية الفيلم ونهايته أساساً، التي تتطلّب أخذ آراء أخرى في الحسبان.
عُرض "لمْعلْقات" تجريبياً لمشاهدين فرنسيين، لمعرفة ردود فعل أشخاص غير مغاربة إزاء القصة، فاكتشفت أنّ لديهم خلطاً بين الشخصيات، لأنّ ثلاثتهنّ يضعن غطاء رأس، كما يحصل عندنا إزاء شخصيات من ثقافات أخرى، كالصينية. كان يلزم أنْ نجد في المونتاج وسائل لتمييز الشخصيات. غيّرت أشياء في الشكل النهائي للفيلم، كالتركيز أكثر على اللقطات المقرّبة. اكتشفت أشياء كثيرة في المونتاج، منها أنّ لكلّ شخصية لوناً تحبّه: لطيفة تحب تدرّجات الأحمر والبرتقالي، وتضعهما في لباسها وأثاث منزلها، والسعدية تفضّل الأخضر في لباسها. هذه أشياء لا ننتبه إليها في حياتنا عادةً.
(*) أين كان أول عرض، وكيف جاء تلقي الفيلم عموماً؟
العرض الأول في "دوك مونشن" (المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في ميونخ ـ المحرّر)، في ألمانيا. لكنّ إطلاقه في زمن كورونا لم يخدم عرضه على نطاق واسع، ومع هذا حقّق 3 ملايين مشاهدة عند بثّه على شاشة القناة المغربية الثانية.
كنت أتوجّس كثيراً من ردّ فعل الشخصيات على هذا العرض، خصوصاً والدة لطيفة، رحمها الله. كانت هذه أول مرة تشاهد فيها ابنتَها بعد الموت. لم تكن لديها فكرة عمّا صوّرناه معها. رغم أنّي أعرف أنها تُعزّني وتعتبرني كابنتها، كنت خائفة من أنْ أسبّب لها أذىً نفسياً. أيضاً، كنت قلقةً من ردّ فعل غيثة، خصوصاً مشهد حديثها مع زوج ابنتها، التي تزوّجت بعدها رجلاً آخر.
كنت متوجّسة من أن أسبّب مشكلة للشخصيات، إلى درجة أنّي لم أخبرهنّ بعرض الفيلم على التلفزيون، مُفضّلةً انتظار فرصة أخذهنّ إلى مهرجان سينمائي في المغرب، بعد أنْ لم يتسنّ لي ذلك في "المهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا". غيثة شاهدت الإعلان الترويجي على التّلفاز، واتصلت بي متحمّسة. بعد البثّ، اتصلت مجدّداً، لتعبّر عن سرورها. أما والدة لطيفة، فشكرتني على الفيلم، وأخبرتني أنّ جيرانها بكوا الفقيدة مجدّداً. كثيرون تفاجأوا، وسألوني: هل لا يزال هناك كتاب عموميون في المغرب؟ اكتشفت أنّ البعض الآخر لا يزال يخلط بين التخييل والتوثيق، حيث أثنوا على عفوية وبراعة من ظنّوهم ممثّلين، فكنت مُجبرة على شرح طبيعة الفيلم لهم.
بمناسبة عرضه في البرازيل، قالت لي عالِمة اجتماع إنّ برازيليات كثيرات سيجدن أنفسهنّ فيه. استغربت ذلك، وطلبت منها توضيحات، فأخبرتني أنّ برازيليين يهاجرون سرّاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، تاركين نساءهنّ وراءهنّ. هناك، يتزوّجون ثانيةً لينالوا أوراق الإقامة، لكنّهم لا يستطيعون العودة إلى البرازيل. هكذا تبقى الزوّجات معلّقات. هذا يفسّر اهتمام البرازيليين بالفيلم، ومشاركته في مهرجانَين هناك. هذه إشكالية منتشرة أيضاً في العالم العربي، لكنّها لا تزال "تابو" ينبغي مواجهته والبحث عن حلول له.