في ظل حالة عدم اليقين وعدم الثقة التاريخية بالروايات الرسمية، استعانت بعض وسائل الإعلام الروسية بالعرّافين و"قصاصي الأثر" لتحديد مصير رئيس مليشيا "فاغنر" يفغيني بريغوجين، ومعرفة ما إذا كان قد قضى في حادثة الطائرة بين موسكو وسانت بطرسبورغ.
وفيما عززت آراء بعض العرافين والسحرة شكوك فريق يؤمن بأن "طباخ الكرملين" حي واستطاع بوصفة "سحرية" النجاة مرة أخرى من موت محقق، ذهب فريق آخر إلى تبني آراء عرافين حددوا، عن طريق الطاقة المنبعثة وكشف المستور من وراء الحجاب عبر ترتيب بعض الأوراق، أن بريغوجين بات بعيداً بعدما تحررت روحه.
الغموض حول صحة مقتل بريغوجين تواصل لاحقاً، بعد وضع لوحة على قبره لجزء من قصيدة الشاعر السوفييتي جوزيف برودسكي من كتابه "الحياة الساكنة"، وفي المقطع حوار افتراضي بين مريم العذراء والمسيح: "تقول الأم للمسيح: هل أنت ابني أم الرب؟ أنت مسمر على الصليب. كيف سأعود إلى المنزل حين أخطو على العتبة من دون أن أفهم وأقرر: هل أنت ابني أم الرب؟ أي أنك حي أم ميت؟ ويردّ المسيح: ميت أو حي لا فرق. ابن أو إله لا فرق. أنا لك".
ومن الواضح أن روايات العرافين بشأن مصير بريغوجين تخدم السلطات المهتمة باستمرار الغموض والجدل حول مصرع واحد من أهم الشخصيات التي أفرزتها الحرب الروسية على أوكرانيا ونافست بقوة "سيد الكرملين" فلاديمير بوتين على شعبيته.
وتكشف متابعة وسائل الإعلام الروسية، منذ بداية الحرب على أوكرانيا، توظيف زيادة إيمان الروس بالتنجيم والسحر في خدمة أهداف الكرملين، من أجل تجاوز حالة عدم اليقين في أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عبر استضافة بعض المنجمين والعرافين ممن بات يطلق عليهم اسم "منجمو Z" (حرف زد بات شعاراً للحرب الروسية على أوكرانيا، وكتب على الدبابات والطائرات، ويتصدر معظم الإعلانات التي تتحدث عن الحرب) في البرامج الحوارية أو حتى السياسية، للحديث عن نصر مؤكد لروسيا، وأن يوم 22/02/2022، وهو تاريخ إعلان بوتين الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين عن أوكرانيا، يمثل بداية النهاية لهيمنة الغرب، وأن صدفة وجود الرقم اثنين خمس مرات تشير إلى حتمية انتصار روسيا في الحرب التي بدأت بعد يومين من هذا التاريخ.
وازداد الاعتماد على المنجمين والعرافين بسبب تراجع الثقة بالمحللين السياسيين والعسكريين في البرامج السياسية في القنوات الفيدرالية، ولكسر رتابة هذه البرامج التي تكاثرت وظلت تستعين بالوجوه نفسها من المحللين السياسيين والعسكريين الذين يكررون توقعاتهم ورؤيتهم التي لا تختلف كثيراً عن المواقف الرسمية، مع هامش يسمح بإطلاق تهديدات تؤكد قدرة روسيا على الحسم مع أوكرانيا والغرب إن شاءت في أي وقت.
وعشية الذكرى الأولى للحرب على أوكرانيا، في 24 فبراير/ شباط الماضي، أشار تقرير استقصائي لموقع إنسَيدر الإخباري إلى أنه بعد بداية حرب واسعة النطاق في أوكرانيا، بدأ الروس بمشاهدة الأخبار والبرامج السياسية في كثير من الأحيان، ولكن بعد مرور عام، عادت المشاهدات إلى مستوياتها السابقة. ولفت التقرير إلى أنه بعدما سئم المشاهدون من حالة عدم اليقين حول مستقبلهم، تحولوا إلى برامج تدور حول ما هو خارق للطبيعة، وباتوا يتابعون بشكل متزايد مسلسلات تتحدث عن العرافين والبرامج الحوارية على المحطات الحكومية التي تضم "عرافين وطنيين" يتنبأون بمستقبل عظيم لروسيا.
ورجح التقرير أن المواضيع الخارقة للطبيعة تُشجع من قبل جهاز الأمن الفيدرالي (الاستخبارات الداخلية)، وخلص إلى أن "عرافي زد" أصبحوا جزءاً مهماً من دعاية الكرملين.
وأفاد التقرير بأنه في النصف الثاني من يناير/ كانون الثاني الماضي، أدرج 16 برنامجاً من أصل 80 برنامجاً حوارياً أعدها الإعلامي أندريه ملاخوف، في 2022، ضمن قائمة أكثر مائة برنامج يحظى بشعبية في روسيا. واوضح التقرير أن 11 موضوعاً منها تحدثت عن "موضوعات خارقة للطبيعة"، مثل "تنبؤات عالم الرياضيات الأفغاني" و"العراف الشيشاني" و"العرافون على خط المواجهة". وأوضح التقرير أن المنجمين والعرافين أصبحوا نجوم برنامجه الذي استضاف سابقاً النجوم والأشخاص ذوي القصص الغريبة، وأن المجمين ناقشوا الموضوعات العسكرية والاجتماعية والسياسية، وقاموا بالتنبؤات حول نتيجة الحرب مع أوكرانيا ومستقبل روسيا ورئيسها.
وكشفت التقارير واستطلاعات الرأي أنه منذ بدء الحرب زاد اهتمام الروس كثيراً بالتنجيم والسحر وتوقعات العرافين، ففي 2022 وحده، أنفق مواطنو البلاد نحو 95 مليار روبل (نحو 990 مليون دولار)، على هذه الاهتمامات.
ويرى محللون أن الإيمان بالسحر يساعد العامة على تجاوز حالة عدم اليقين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مشيرين إلى وجه التشابه مع ألمانيا بعد هزيمة النازية، حين أصبح الإيمان بالمعالجين، واتهام الجيران بالسحر، والانبهار بالطقوس الصوفية، جزءاً مهماً من حياة العديد من الألمان على خلفية غياب الثقة بمستقبلهم.
وفي مقابلة مع موقع ميدوزا الروسي في 26 أغسطس/ آب الماضي، تطرقت المؤرخة الأميركية مونيكا بلاك، صاحبة كتاب "الأرض المسكونة بالشياطين"، إلى أوجه شبه بين ما يحدث في روسيا اليوم والمجتمع الألماني عام 1945، حين فقد العديد من الألمان الأرض تحت أقدامهم، إذ لم يدرك كثيرون حينها حتى اللحظة الأخيرة أنهم كانوا يخسرون الحرب، وفوجئوا عندما دخلت جيوش الاتحاد السوفييتي مدنهم. وفجأة، تفككت جميع مؤسسات الدولة الألمانية.
وأوضحت بلاك أن "الألمان واجهوا المسؤولية عن الجرائم الفظيعة التي ملأت صورها المساحة الإعلامية بأكملها: كانت الملصقات والصور الفوتوغرافية لأهوال معسكرات الاعتقال في كل مكان. أعتقد أنهم كانوا في تلك اللحظة مشوشون: لم يفهموا ما يفكرون فيه وماذا يفعلون، ولم يعرفوا بمن يثقون"، مؤكدة أن حالة عدم اليقين هذه وغموض المستقبل "يمكن أن تدفع أي شخص للبحث عن إجابات بديلة"، وعالم الغيبيات خير ملجأ.
ومع زيادة أعداد المؤمنين بالسحر والتنجيم والروحانيات، كشفت صحيفة فيدومستي الروسية، في نهاية مارس/ آذار الماضي، عن زيادة كبيرة في مواقع الإنترنت التي تقدم دورات تدريبية على تقنيات السحر والتنجيم. ومن بين الدورات التدريبية المقترحة في مدارس الغيبيات على الإنترنت تقدّم ندوات للزوار حول العلاج الروحاني، واستحضار الأرواح، وسحر جذب المال، والممارسات السحرية النسائية، والتنبؤ بالمستقبل باستخدام بطاقات التاروت، وتفسير الأحلام العليا وغيرها الكثير.
كما سجلت المتاجر الإلكترونية زيادة حادة في الطلب على سلع السحر والشعوذة، إذ ارتفعت شعبية أوراق "التاروت" على منصة التجارة الإلكترونية الروسية "وايلدبيري" في الفترة من يناير إلى مارس 2023 بنسبة 105 في المائة على أساس سنوي، وقفزت مبيعات مستلزمات وإكسسوارات التنجيم على متجر "أوزون" بنسبة 81 في المائة، بينما أظهر الطلب على التمائم وأساور الحفظ من العين والحسد زيادة بنسبة 95 في المائة.
وتعليقاَ على التقرير، قال الرئيس التنفيذي لشركة إنفولاين-أناليتكس ميخائيل بورميستروف، للصحيفة، إنه "بمساعدة الممارسات الغيبية، يحاول الروس تقليل مستوى عدم اليقين وسط التوتر الشديد الذي يعيشونه في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد"، لافتاً إلى أن الدورات التدريبية حول التقنيات الغامضة بدأت تحتل بشعبيتها أماكن دورات تطوير المهارات والشخصية.
وذكرت صحيفة غازيتا رو الروسية، في 30 يونيو/ حزيران الماضي، أنه وفقاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية ومركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام (فتسيوم) وشركات جمع البيانات، فإن من بين 140 مليون روسي، هناك 1.5 مليون شخص يصفون أنفسهم بأنهم سحرة وعرافون ومختصون في قراءة الكف وممثلو "المهن" الورائية الأخرى.
من جانبه، قال الصحافي آرام تير غازاريان إن "ما يحدث يشبه الجنون الهادئ"، موضحاً أن "الروس بهذه الميول الغريبة، يحاولون التخلص من المسؤولية عما يدور حولهم، بالاعتماد على الوعود الفارغة من أناس ذي أطباع غريبة". ودعم غازاريان نظريته بدليل ظهور "مهن" جديدة مطلوبة بشكل كبير، منها عالم رودولوجيا مهمته الكشف عن سبب عثرات وخيبات الشخص عبر تحليل أفعال وتصرفات أجداده، ومهنة عالم نفس فلكي، ومنجم تاروت، ومتخصص في التصميم البشري، وحتى عالم جنس ماورائي. وقال الصحافي إن ممثلي هذه "المهن" هم في الواقع علماء نفس عاديون خلطوا التعاليم السحرية مع معرفتهم.
ورأى غازاريان، في مقال كتبه لـ"غازيتا رو"، أن كل واحد من مائة روسي يكسب المال من خلال خداع مواطنيه، مشيراً إلى أن هذا الأمر منطقي، من منطلق أن الطلب يخلق العرض: 45 مليون روسي يؤمنون بإخلاص بدقة التنبؤات الفلكية والأبراج، والتي عادة ما يكتبها المتدربون الجدد في أقسام الصحافة مقابل رواتب بسيطة، و30 مليوناً يخافون من العين والحسد، وهذا يعني، في المتوسط، أن ثلث الأشخاص الذين يعيشون في روسيا يعتقدون أن الإبرة التي تُلقى تحت الباب أو القطة السوداء التي تعبر الشارع أمام سيارتهم يمكن أن تغير جذرياً، لا حياتهم فقط، ولكن أيضاً مصائرهم.
ويعتقد عدد من المحللين وعلماء النفس والاجتماع أن الإيمان بالغيبيات لدى الروس ليس سوى مهرب يحرر وعيهم من المسؤولية عن فشلهم في بلوغ ما يريدونه على المستوى الاجتماعي والمالي، في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة. وأن الأفضل هو الإيمان بأن شيئاً غامضاً يحول دون بلوغهم السعادة التي يبتغونها.