استمع إلى الملخص
- بعد توحيد ألمانيا، تحول المهرجان إلى منصة لنشر موسيقى الجاز الأوروبية التجريبية، مقدماً عروضًا تتقاطع فيها الوسائط الموسيقية مثل الجاز التقليدي والموسيقى الكلاسيكية المعاصرة والإلكترونية.
- تميزت الدورة الأخيرة بعروض مبتكرة مثل "شرائط طحلبية"، مسلطة الضوء على دمج الموسيقى مع رسائل سياسية واجتماعية، مما يعكس التزام المهرجان بقضايا العصر.
عبر احتفاله أول نوفمبر/تشرين الثاني الحالي بمرور ستين عاماً على تأسيسه، يؤكد مهرجان برلين للجاز رسالته منذ الانطلاقة الأولى، أن موسيقى الجاز هي الصوت الصادر عن بوتقة التعددية عند صهرها، ليس لثقافات موسيقات العالم فقط، بل للأجناس والأساليب الموسيقية المختلفة.
ولئن تكمن التعددية في نشأة ذلك الحقل الإبداعي، إذ يُعتبر كل من موروث الرقص والسماع لدى الشعوب الأفريقية القادمة إلى القارة الأميركية، إضافة إلى رقصات المستوطنين الأوروبيين وأغانيهم، عناصر أساسية في تكوينه، فقد ميّزت موسيقى الجاز منذ أول السبعينيات، سمة الفن الأكثر مرونة، لجهة إدماجها أشكال التعبير السمعي المختلفة، متجاوزةً بذلك وصفها السابق، كما أتت به صحيفة ذا نيو ريبابليك (The New Republic) سنة 1946 بأنها "الفن الأميركي الوحيد"، لتصير الفن العالمي الوحيد القابل للتعدد والتوسع ودمج الفنون السمعية الأخرى.
يصب ذلك أيضاً في الدور الدعائي الذي أرادت العاصمة الألمانية لعبه على المسرح الدولي. تحديداً، عقب انهيار جدارها بانتهاء الحرب الباردة، ثم توحيد شطري البلاد سنة 1989. حينئذ، أُريد لها أن تكون الحاضرة الجديدة للتعددية الليبرالية في ظل عولمة التجارة والاتصالات.
على الرغم من أنه تأسس سنة 1964، وعليه، بات اليوم من بين المهرجانات الفنية الأقدم عهداً في أوروبا، فإن مهرجان برلين للجاز (JazzFest Berlin) الذي ترعاه جهة برلين للمهرجانات الفنية (Berliner Festspiele) قد شهد تحولاً في الدور المنوط به بعد الوحدة، بأن انتقل من كونه منصة أوروبية للقوة الناعمة الأميركية، يستقبل نجوم الأداء الألمع في الولايات المُتحدة، ليُصبح منصةً لنشر موسيقى الجاز الأوروبية التي اتخذت منذ البدايات مناحي أكثر تجريبية، ووجهات قرّبتها من موسيقى ما يُعرف بِكروس أوفر (Crossover)، أي العبور الثقافي والتقاطع الموسيقي ما بين الهويات والطُّرز والأساليب التعبيرية والأدائية.
أبرز مساعي العبور التي شهدتها دورة المهرجان الاحتفالية شتاء هذا العام، تلك التي تناولت تقاطع الوسائط الموسيقية، وقد تميّزت منها ثلاث: أولها، وسيطُ الجاز التقليدي، المعروف بتشكيلة آلية أصبحت تقليدية، وتحمل هويّته الصوتية. لها نواةٌ تتألف من عدّة طبول الدرامز والكونترباص. غالباً ما يُضاف إليها البيانو والنفخيات النحاسية، كالترومبيت والساكسفون.
ثانيها وسيط الموسيقى الكلاسيكية بشكله المعاصر، الذي وإن اقتصر تمثيله في مجمله على الآلات الوترية تمييزاً له عن الجاز، فقد شارك في أغلب العروض بهوية صوتية تنتمي إلى اللون الأكثر حداثة، والمعروف باسم "الموسيقى الجديدة"، الذي يعتمد مقاربةً مفاهيمية تجريبية، تجرّد الصوت الموسيقي من أيّ ثيمة لحنية موضوعة مسبّقاً، تأليفاً كانت أو ارتجالاً، لتكتفي به مادةً خاماً، فيستحيل ضوضاء تبقى مفتوحة أمام احتمالات الآثار الشعوريّة والتأوّلات الخاصة بكل مستمع على حدة.
أما الثالث والأكثر جدّة، فهو وسيط الموسيقى الإلكترونية. من خلال أشد أشكاله تجريداً، شاركت الموسيقية الهايتية، فال جانتي (Val Jeanty) المدرّسة في جامعة بركلي بولاية فلوريدا الأميركية، فريقاً موسيقياً بقيادة عازفة البيانو الكندية كريس ديفيس (Kris Davis). قدّمتا معاً عرضاً بعنوان "شرائط طحلبية" (Diatom Ribbons). استدعت جانتي إلى التشكيلة الجازية التقليدية، ماكينة تدوير الأسطوانات الموسيقية (Turning table) التي سبق أن استعملها رواد موسيقى الراب في الثمانينيات، وهي اليوم من عتاد الموسيقى الإلكترونية المعاصرة.
لم تُصدر جانتي عن ماكينتها لتدوير الأسطوانات الأنغام والألحان، وإنما قصاصات صوتية مسجّلة من خطابات، مزجتها برشاقة إيقاعية وحرفية أدائية عالية مع ارتجالات الفريق، على الدرامز والبيانو والكونترباص، التي أتت على طراز الجاز الحر والمعاصر، أو ما بات يُعرف اليوم بمصطلح ما بعد البوب (Post Bop).
بيد أن الهدف من بث القصاصات الصوتية، لم يقتصر على التشكيل الصوتي المجرّد والمفاهيمي وحسب، بل عَمد إلى البعث برسائل سياسية، فأخذت كلمة هجرة بالإنكليزية تتردّد، وهي تتداخل مع خربشات إيقاعية على سطوح الأسطوانات، في مسعى أدوتة للموسيقى، بغرض التلميح إلى أحد أكثر المواضيع استقطاباً اليوم ضمن السجال الأميركي الداخلي، ألا وهو الهجرة.
في عرض آخر، صهر الأميركي داريوس جونز (Darius Jones)، وهو واحدٌ من أهم مؤلفي الجاز وعازفيه الأحياء، الوتريات مع آلته الساكسوفون الصدّاحة. شاركه كل من الأخوين الكنديين، جيسي وجوش زابوت على آلتي كمان، إضافةً إلى پيغي لي على آلة تشيلو.
مع أن الأخوين زابوت (Zubot) معروفٌ عنهما العزف بأسلوب الجاز، إلا أن إسهامهما الموسيقي ضمن بوتقة جونز، أتى بنكهة "الموسيقى الجديدة"، فارتجلا معاً منتجين أشكالاً إيقاعية أقرب إلى الضوضاء المجرّدة، عبر الرمي بعود القوس الخشبي على سطح الآلة، أو التصويت من طريق القبض عليه بأوضاع مبتكرة، جاعلين بذلك من آلة الكمان، المعروفة بملكاتها الغنائية، أن تتحول إلى آلة محض إيقاعية. فيما حافظت بيغي لي بعزف آلتها التشيلو، على أنماط أكثر نغمية، وإن بحسب المفهوم الحداثي المينيمالي، غير السلمي أو المقامي بالضرورة، فأمّنت للمقطوعات والارتجالات نسقاً تأليفيّاً أكثر وضوحاً.
عانت البوتقة التي اختارها جونز من التفاوت الصوتي الحاد بين آلات الجاز التقليدية والمجموعة الوترية، إذ استحال التوازن، وذلك بحكم العلو الطبيعي الحاد لصوت الساكسوفون، وانخفاض التشيلو والكمانات، خصوصاً إذا لم ترتص ضمن مجموعة كثيرة العدد. لم يبدُ مهندس الصوت قادراً، على الرغم من وصل جميع الآلات لمكبّرات الصوت، على المناسبة بين المديات الصوتية، وبالتالي رأب الصدع بينها. الأمر الذي طرح على أذن الناقد، الجدوى الخِبروية من صهر تلك الآلات معاً، بالنسبة إلى جمهور المستمعين لدى حضورهم الأداء الحيّ، وبموجب ذلك، تعثّر مسعى البوتقة الموسيقية.