بطاقم نسائي كبير، قدمت المخرجة والكاتبة الكندية سارة بولي فيلمها الأخير Women Talking، الذي نال جائزة أوسكار عن فئة أفضل سيناريو مقتبس. يتناول العمل، بعيداً عن التنميق والرمزية، قضية بالغة الأهمية والحساسية في الشأن النسوي، وهي الأثر النفسي والجسدي للاعتداء الجنسي.
تدور أحداث Women Talking في مجتمع أنثوي بالكامل، تصوغ من خلاله بولي مانفيستو صارخاً، يدين الهيمنة الذكورية على النساء التي تصل حد الاعتداء والانتهاك. قصة الفيلم مستوحاة من رواية صدرت عام 2018 تحمل الاسم نفسه، للروائية ميريام تيفز، أعادت بولي صياغتها سينمائياً مع إجراء تعديلات على السرد.
تستند القصة لأحداث حقيقية حصلت في مستعمرة تتبع لطائفة مينونايت المسيحية المحافظة في بوليفيا، حيث قام عدد من رجال المستعمرة بتخدير 151 امرأة واغتصابهن لمدة أربع سنوات، ليوهموا بعدها ضحاياهم بأن ما حصل من عمل الأشباح والأرواح الشريرة. جرى القبض على تسعة رجال من الفاعلين فقط، ولكن السلطة الذكورية اتحدت مع السلطة البابوية وجهاز الشرطة لحماية هؤلاء الرجال باستخدام سطوة الدين لطمس معالم الجريمة وطي صفحاتها.
انطلاقاً من هذا الحدث، يطرح كل من تيفز وبولي افتراضاً من أعمال الخيال الأنثوي: ماذا لو امتلكت تلك النساء الحق في تقرير مصيرهن؟ وعليه تجتمع النساء في حظيرة، كأنهن يعقدن اجتماعات للانطلاق في حركة ثورية، ويضعن أمام أعينهن خيارات النجاة، ويحصرنها في ثلاثة احتمالات؛ إما الغفران، وهو الخيار الذي يستبعده تصويت معظم النساء، إذ يتجادلن حول حقيقته وصدقه رغم أنه مقترن بالبقاء في كنف الكنيسة، أو المواجهة والقتال الخيار الذي تميل له أكثرهن قهراً من هول ما تعرضن له، أو المغادرة وترك هذه المستعمرة، ربما رغبة في خلق مجتمع أمومي ردّاً على النظام البطريركي الذي أتاح أجسادهن الساكنة وليمة للمعتدين، والخياران الأخيران مقرونان بالغضب الإلهي وإقصاء الكنيسة.
من خلال النظر في عنوان الفيلم، هناك أهمية بالغة للكلمة، تتحدث النساء كثيراً، ويشف حديثهن المكثف عن الأثر النفسي والجسدي البالغ الذي تركه الاعتداء عليهن، من حمل غير مرغوب به، إلى أمراض تنقل عبر الجنس، وآثار العنف لا تغيب عن نظر المشاهد، الدم والكدمات حاضرة دوماً، الحديث الذي ينم عن هواجسهن العديدة التي تدور في فلك الحب والجسد والجنس، وخلال هذا الحديث يضحكن ويصرخن ويناقشن بشكلٍ هستيري غالباً، حتى إن صمتهن يوحي بأن عاصفة على وشك أن تهب.
هؤلاء النساء اللاتي لا يعرفن القراءة أو الكتابة، يتوصلن بقدرة النقاش والجدال إلى قرار جماعي. ورغم وجود السجالات والمشاحنات، فإنهن يقررن مصيرهن بناءً على ديمقراطية حقيقية، فيعتمدن الإقناع بالحجج المنطقية وإشراك العقل والعاطفة، في جلسات حوارية تذكّر بأفلام على غرار 12 Angry Men. هن أيضاً فريق من النساء الغاضبات بفعل انتهاك أجسادهن عنوة، رغم أنهن يشتركن بمأساوية فيما تعرضن إليه، فإن اختلاف وقْع الاعتداء على كل منهن أبرز تنوع شخصياتهن، بين أكثرهن تطرفاً وغضباً، مثل سالومي (كلير فوي) وميريكا (جيسي باكلي)، وأكثرهن اعتدالاً، مثل أونا (روني مارا)، ولكل امرأة منهن منظورها. ففي هذه الحظيرة، تنصهر تلك النساء بعضهن ببعض، حتى يصبحن كامرأة واحدة غاضبة حكيمة عاطفية، يملؤها الرجاء بالمستقبل، وبالأطفال الذين سيُنشئنهم بعيداً عن المستعمرة، على أمل ألا يشبهوا الرجال المعتدين الذين أنجبوهم.
في منتصف الفيلم، يفاجئنا صنّاع العمل بأن الأحداث تجري في عام 2010. تمر سيارة تنادي على السكان بشكل بدائي لتسجيل أنفسهم في إحصائية السكان لعام 2010، على الرغم من عدم وجود ما يشير إلى أن هذه القصة معاصرة، بل يميل المشاهد إلى الاعتقاد بأنها ترجع لما يقارب المئة سنة أو أبعد. هذه المستعمرة لا تعرف شيئاً عن الحداثة أو التكنولوجيا، حتى الكهرباء لم تزرها، ويغلب الظن أن سكانها ما زالوا يتنقلون عبر الجياد والعربات، ولا سيما أن أكبر النساء سناً لا تملّ من الحديث عن جواديها شيريل وروث.
أجواء العمل تدلّ على أن الحكاية التي ستسرد خلال شريط يمتد إلى 104 دقائق تنتمي إلى زمن انقضى، ولكن استعادة هذه القصة في سياق تاريخي آخر، واستحضارها بمناخاتها التي تشمل هيئة الشخصيات وملابسها إلى زمن معاصر، قد يدل إلى أن أزمات النساء وآلامهن هي واحدة وممكنة الحصول في أي عصرٍ كان.
الحب موجود، ويتجلى بالرجل الوحيد الذي يسمح صنّاع العمل للمشاهد بالإمعان في وجهه، والنظر في انفعالاته وسماع رأيه، وإن كان يبديه باستحياء. في المقابل، يجري استحضار العنف الذكوري في الفيلم عبر رجال غير معروفين، لا وجه لهم ولا صوت. المعتدي غائب جسدياً وحتى النساء لا يعرفنه. الرجل الوحيد الذي لا يمقتن النظر إليه هو أوغست (بن ويشو)، الشاب الذي تلقى تعليماً جامعياً وعاد ليدرس أطفال المستعمرة، يحوز في شخصيته على صفات إنسانية، فلا يخفي دموعه التي تكشف عن رقته ووداعته وتعاطفه مع النساء. أوغست، الذي اختارته تويز راوياً في روايتها، يهيم عشقاً في أونا، ويعلن استعداده لتربية مولودها الذي ستنجبه جراء الاغتصاب، فهو كونه مدرساً للأطفال، يمكن أن يكون بعلمه وتعاطفه تطلعاً لغدٍ أفضل.
ذكريات النساء التي تسرد بصوت المراهقة أوتشا الطفولي، التي تعرضت للاعتداء أيضاً، تعطي الفيلم طابعاً شعرياً، فضلاً عن إدخال لقطات (Inserts) تتقاطع مع السرد، بشكلٍ توضح فيه عزلة هذه النساء وغربتهن الروحية وغضبهن العميق، إضافة إلى اللون الرمادي الضبابي الذي يخيم على الفيلم، ويخلق شعوراً بأن الأحداث تجري في زمان ومكان بعيدين، تتوقف سارة بولي عند ألوان الفيلم، مشيرة إلى أنها اختارتها لخلق شعور بأن العالم في الفيلم قد تلاشى في الماضي، وتشرك زاوية الكاميرا الحيادية المشاهد في القرار، فيتماهى مع آلام النساء ويتطهر بخلاصهن.