"وصلت إلى قمة العالم. الآن أسعى إلى الخلود".. بعد سماع صوت كريستيانو رونالدو يقول هذه العبارة في وثائقي "كريستيانو يعيش هنا". ستراه يتحدث بصوت طفولي ويتقدم نحو شاشة حاسوب تعرض مجموعة من الصور له وهو طفل، ثم يصدر مجموعة من أصوات مداعبة الرضع وينطق اسمه. يفعل كل هذا كما لو كان مهتماً فعلاً بالطفل الموجود في الصورة ثم يبتعد ضاحكا.
- "هذا أنا وعمري ثلاثة أشهر. انظروا لهذا الفتى. يا لجماله وهذا السوار الذهبي على معصمه".
يبدأ كريستيانو القيام بتعبيرات مضحكة بوجهه ساخرا من نفسه وفي نفس الوقت، تمسك شقيقته كاتيا بابنها، وهو يقول لها أثناء بكاء الطفل "سيكون لاعب كرة قدم مثل خاله. كنت أبكي أنا أيضا. لا تقلقي".
دور أيتام ومستشفى الأمراض العقلية:
بين كريستيانو الطفل وكريستيانو الحالي توجد فروق كثيرة، ولكن لا يمكن أن تروى قصته من دون أن تحكى قصة عائلته، وبالأخص والدته ماريا دولوريس أفيرو التي تيتمت حينما كان عمرها خمس سنوات بعد وفاة والدتها ماتيلدي التي تركت خلفها خمسة أبناء دون أي أموال.
لم يكن والدها يأبه كثيرا بالأمر، لذا أرسل أبناءه الأربعة لملجأين للأيتام، كل منهما يتبع ديانة مختلفة، وتعرضت هناك للعقاب الجسدي بشتى صوره في الوقت الذي لم يظهر فيه والدها لزيارتها أبدا، حتى جاء في يوم من الأيام ومعه زوجته الجديدة أنجيلا: أم لخمسة أبناء وحبلى في السادس.
حينما أصبح عمر دولوريس تسعة أعوام أجبر الملجأ الوالد على استعادة ابنته، وهكذا انتقلت من ساحة عنف إلى ساحة عنف أخرى، فيما أن الأب الذي كان يسعى للتخلص من هذا العبء حاول إيداعها مستشفى للأمراض العقلية، ولكن الطبيب رفض لأن الابنة لم تكن تعاني من أي مرض.
مرت السنوات وكبرت دولوريس وقررت أن تبدأ في السيطرة على حياتها بعد أن سأمت من العيش في منزل لم يكن فيه كهرباء ولا ماء، لذا بدأت في العمل بمفردها، وهكذا تعرفت على ذلك الشاب دينيس جوزيه أفيرو.. مفعم بالحياة؛ كان يجعلها تضحك وجعلها تشعر بأنها جذابة.
الرجل الرمادي والجعة المغلية:
خلال أشهر قليلة كانا قد تزوجا في منزل والدي دينيس. كان الأربعة ينامون في غرفة واحدة لا يفصل بينهما إلا ستار. جاءت الطفلة الأولى، إلما، بعد العام الأول من الزواج، ثم حملت دولوريس مرة أخرى أثناء بعد الحمل الأول، ولم تدم السعادة كثيرا، فقد تم استدعاء دينيس للخدمة العسكرية. حينها كانت أنغولا وغينيا بيساو وموزمبيق، وكلها مستعمرات برتغالية سابقة، تكافح من أجل الاستقلال.
ولد الطفل الثاني هوغو أثناء وجود دينيس في أفريقيا، ولكن الرجل كان قد تغير. حينما عاد كان نسخة رمادية مما كان عليه. ذلك الشاب المفعم بالحياة بكل لمعانه لم يعد له وجود بعد أن امتلأت روحه بصور الحرب التي أفقدته الحماس لأي شيء، وفجأة أصبحت دولوريس تتولى دور الأب والأم، بل ذهبت للعمل في باريس لعدة شهور، قبل أن تعود لتحمل مجددا بكاتيا. كان عمرها تلك المرة 22 عاما.
حملت دولوريس مرة أخرى. هذه المرة كان عمرها ثلاثين عاما. لم يكن هناك أي تخطيط بالفعل هذه المرة. كان زوجها "غائبا" على الصعيد المعنوي لذا فكرت في الإجهاض. الحقيقة أن الأمر تعدى التفكير، فقد حاولت ذلك بالفعل، إذ إن إحدى جاراتها أخبرتها أن تحتسي جعة سوداء مغلية، وأن تركض حتى يغشى عليها، ولكن الأمر لم ينجح.
رفض الطبيب مساعدتها لأنه لم ير حاجة للإجهاض، وأخبرها "سيكون فرحة هذا المنزل"، بل حينما ولد الطفل، قال مازحا "بهذا الوزن قد يصبح لاعب كرة قدم". أسمته دولوريس على اسم رئيس الولايات المتحدة رونالد ريغان. تلك المرأة في النهاية أحبت كل أبنائها. في الخامس من فبراير/شباط 1985 ولد كريستيانو رونالدو.
من أستراليا لأفريقيا:
كان من الممكن أن يولد كريستيانو في أستراليا، لأن والد دولوريس كان قد قرر السفر إلى هناك للعمل، ولكنه ترك ابنته التي رجته أن يأخذها معه وزوجته أنجيلا، فقد أجابها بألا مكان لها، على الرغم من أن أستراليا ليست بهذا الصغر. على أي حال ما حدث في الماضي حدث في الماضي، لذا لم يمانع كريستيانو رونالدو من سداد تذاكر سفر جده وزوجته من أستراليا لألمانيا ليشاهدانه وهو يلعب في كأس العالم 2006.
وطالما أننا نتحدث عن الماضي، فإن هناك معلومة مثيرة جديرة بالذكر، وربما تفسر قوة رونالدو البدنية، وهو أن جدته الكبرى إيسابيل روسا كانت من الرأس الأخضر، فبوراثة الجينات ستكون وصلت له بكل تأكيد خصائص الأنسجة العضلية السمراء ذات الطاقة الكبيرة والمتفجرة.
في منزل العائلة الجديد حينها بحي كينتا دي فالكاو المتواضع في ماديرا والذي حصلت عليه بعد الثورة، لم يشعر أحد بالجوع، ولكن الحياة كانت صعبة. كانت سياسة "شد الحزام" هي المتبعة في المنزل، بل إن إلما وهوغو اضطرا للخروج من المدرسة للعمل ومساعدة العائلة.
كانت دولوريس هي الأهم في حياة رونالدو وربما شقيقته كاتيا. الوالد دينيس كان بعيدا لدرجة أنه تأخر عن حفل تعميده في الكنيسة نصف ساعة كاملة. كانت كاتيا هي من تصحب كريستيانو للمدرسة وتعود معه لاحقا لتساعده في الواجبات. لم يكن بمقدرة دولوريس القيام بكل شيء في النهاية.
الغائب الحاضر
كان دينيس أفيرو، والد كريستيانو، بمثابة الغائب الحاضر في العائلة، ولكنه هو كان السبب الرئيسي في إدخال حب الكرة بالعائلة، خاصة حينما بدأ العمل في نادي أندورينيا بالدرجة الخامسة، حيث أصبحت مسألة الذهاب للملعب من ضمن الأنشطة الاعتيادية.
لم يكن عمل الوالد في غاية الصعوبة: جمع المعدات والاعتناء بالكرة وتجهيز الأشياء للمدربين وقمصان الملابس للاعبين وتنظيف المراحيض وقص العشب. حينما بلغ رونالدو سن الثامنة عشرة كان يحب أن يكون بجانب والده. كثيرة هي تلك الليالي التي كان تدق فيها الساعة الحادية عشرة ويذهب فيها هو وشقيقته لجلب والدهما من الحانة، لأنه لم يكن يشعر بالراحة في ظل غيابه. كان دينيس يحبذ البقاء في ركنه الهادىء بالحانة. يحتسي المشاريب. غارقاً في أفكاره دون تسبيب أي مشكلات.
سمعه بعضهم يقول في الحانة بعدما بدأ كريستيانو رحلته "أريد أن يكون ابني سعيدا وناجحا. بالنسبة لي شخصيا، أحب العيش في عالمي الخاص. عالمه شيء يخصه". هذا لم يكن مجرد حديث حانات، لأنه فعلا لم يحب الذهاب إلى مانشستر، حينما وصل كريستيانو إلى هناك، بل أنه لم يزره في المدينة الإنجليزية سوى مرات قليلة.