خرج اللبنانيون إلى الشوارع يشتكون من ظلم أوضاعهم، ويطالبون بنظامٍ جديد يستثني طبقة الحكام الحاليين من إدارة البلاد، واستبدالهم بغيرهم. ولم تكن طبيعة التظاهر دينية، أو طائفية، أو مذهبية، بل كانت عامّة.
وصحيح أن لحزب الله موقفاً قد لا يتناغم مع مطالب الشارع، على اعتبار أنه جزء من منظومة الحكم، وراض عنها، ولكن الاحتجاج يضع الحزب أمام تحدٍّ كبير.
لقد سبقت الأحداث المتتالية عبر السنوات الماضية كل ما يجري ونراه يدور في شوارع لبنان، فمنذ مدة ولبنان يتعمّد تعزيز موجوداته من العملات الأجنبية بأسعار فائدة مرتفعة. وقد قامت مؤسسة التقييم الدولية، مودي، منذ فترة بتنزيل تقييم لبنان كدولة إلى B -، وتبع ذلك تقييم ثلاثة من بنوكها الكبار بالدرجة نفسها، وقد أدى هذا التنزيل إلى رفع أسعار الفوائد في لبنان، وإحداث الغلاء.
وكذلك، فإن سياسة البنك المركزي اللبناني التي كانت موضع تقدير لسنوات قد فقدت جزءاً من بريقها في ظل الأحداث، فزيادة المخزون الاحتياطي من العملات الأجنبية عن طريق الاقتراض، والتمسّك بهذا المخزون، قد وضع الحالة اللبنانية أمام وضعٍ متناقض. فهي لديها، من ناحية، احتياطات أجنبية محترمة، ولكن حجم دينها السيادي يتنامى داخلياً وخارجياً بشكل كبير. وهذا يعني أن الحكومة كانت تغطي جزءاً كبيراً من ديونها عن طريق الاقتراض، في الوقت الذي يتمسك فيه البنك المركزي باحتياطاته.
أمام هذه الظروف، صار العبء يزداد على القطاع الخاص. وفي الوقت نفسه، الذي لم تؤد الحرب الأهلية الطويلة في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته إلى إفلاس لبنان، فإن الظروف الحالية التي مرّ بها لبنان قد غيّرت أوضاعه، ففي أثناء الحرب الأهلية كان لكل فريق ممولوه وداعموه، فكان كبار رجال الجهات المتنازعة قادرين على تمويل أنفسهم بدون المال العام الذي لم يكن متاحاً بشكل كبير، لأن مؤسسة الحكومة لم تكن عملياً موجودة. أما بعد انتهاء الحرب، فقد وقع على الدولة عبء كبير، فالبنى التحتية، والثروة الاقتصادية الاجتماعية التي تهدّمت إبان الحرب الأهلية، ونتيجة للحروب ضد إسرائيل عامي 1982 و2006، قد أدت إلى تدمير كبير.
ولكن هذا كله بدأ يتغير تدريجياً عندما استلم الراحل رفيق الحريري زمام الأمور، فبدأ بإعادة جزء من البنى التحتية، وتولى مهمة إعادة بناء نظم التعليم والصحة، وأنشأ مرافق عامة مثل الطرق والمطار، وأقام مشروع سوليدير، وساهم في بناء بعض الموانئ ومدن الموانئ في الجنوب. ولكن هذا الجهد كله وصل إلى نقطة ساكنة، عندما اغتيل الرجل بانفجار كبير ما تزال أصداؤه تطن في الآذان.
وبتوالي الأحداث على لبنان، وانقسامه إلى حركتين سياسيتين وتمزّق الطوائف بين هاتين الحركتين، بعد خروج القوات السورية من لبنان، بدأ تكوين المال يتنامى لدى رؤساء الحركات السياسية، حتى يتمكّنوا من الإنفاق على قواتهم وأنصارهم، وتنامت قوة الأحزاب بدعم خارجي، ووصول العالم إلى درجة الإنهاك من تقلب الأوضاع، صار واضحا أن التنافس بين هذه القوى هو المحدّد الأساس لمن يحكم في لبنان وكيف يحكم، وبقي المال الذي يجنيه لبنان رهينة لقرارات الزعامات السياسية المتربصة والأحزاب الأخرى. وذلك كله يجري على حساب الشعب.
ولذلك وجدت الخزينة نفسها مدينة وشبه خاوية. والبنك المركزي ينفق على حشد الدولارات في حساباته بثمن غال. ومن هنا، تضافرت الأوضاع المالة والنقدية لتضع لبنان أمام حالة فريدة. ولكنها لا تستطيع ضبط الخدمات العامة للشعب، خصوصا في مجال تطوير الخدمات العامة (النقل والسير)، ولا في مجال توفير الكهرباء والماء، ولا في المجالات الأخرى الضرورية. وأحدثت حالة اللاجئين، والحروب العربية، والأزمات، تراجع الدخل من السياحة والخدمات والحوالات من العاملين في الخارج. ولذلك وقع المحظور على الفئات المسالمة الوادعة والساعية إلى تأمين لقمة العيش.
وقد بقيت هذه الأكثرية الصامتة من كل الفئات والطوائف، وغير المستفيدة من المال الداخل إلى الجيوب الخاصة، والساعية إلى تأمين لقيمة العيش في ظل تزايد تكاليف المعيشة التي ضاقت بها الدنيا، فخرجت للشوارع، لتقول إن الشعب لم يعد يحتمل.
ليس الاعتقاد السائد في بعض أرجاء الوطن العربي أن الوضع اللبناني حالة خاصة دقيقاً. قد تكون الظروف الخاصة بلبنان هي التي تجعله يبدو الاستثناء. ولكن لكل وطن عربي ظروفاً خاصة تجعله الاستثناء ضمن هذه الحالة. أما في المحصلة، فالمظاهر والنتائج للتدهور الاقتصادي واحدة. هنالك سوء إدارة للموارد، وتهالك في الثروة العامة، وخوف من الخاصة يؤدي إلى تركيز الثروة والدخل وسوء توزيعهما، وحيرة وارتباك لدى الحكومات في التصدّي للمشكلات حيال زيادة المطلوبات، وتراجع الموجودات المالية.
وما جرى في تونس أعطى كثيراً من الشاكين والمحتجين في دول عربية تمر بأزمات اقتصادية مثالاً على ما يمكن أن يفعله الناس. وفي الربيع العربي الأول، لم تكن لدى المحتجين بدائل عن الحكم القائم. ولذلك عادت إلى الحكم أنظمة مشابهة. أما في الربيع الثاني، وما جرى في تونس وقبلها السودان والجزائر، قد بدأت تبرز قيادات جديدة يرضى عنها الناس، ويرون فيها أملاً بتحسين حياتهم.
والسؤال هو: هل تكون حالة لبنان المشرقية رديفةً لأختها التونسية المغربية، من حيث بروز قيادات جديدة، غير عسكرية، أم أننا أمام حالة تفاهم بين الجيش والمدنيين، تؤدي إلى أنظمة جديدة تأمل أن تحقق الأمان والازدهار، كما جرى في الجزائر والسودان؟ دعونا نرى، والأيام القادمة قد تحمل مفاجآت.