يعتبر مقتل الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، بمثابة مفاجأة استراتيجية وتكتيك أميركي من العيار الثقيل، كما بيَّنت عملية الاغتيال هذه أنّ تغريدات الرئيس الأميركي ترامب لم تكن مجرَّد كلمات عابرة على حساب تويتر بل تهديد مباشر وحقيقي لإيران.
لم يسبق لأميركا أن نفَّذت مثل هذه العملية من قبل، فقد عُرفت باغتنامها لفرص أخرى لشنّ عمليات ضدّ عدوها اللَّدود في منطقة الشرق الأوسط، ولم يوكِّل ترامب المهمة لإسرائيل بفعل ذلك لأنّه أجرى كعادته العديد من الحسابات التي بيَّنت له أنّ التكلفة ستكون أعلى من الفائدة.
وقد جاء هذا الاغتيال كضربة موجعة لإيران التي تدافع عن نفسها ضدّ الحرب الاقتصادية التي تشنُّها الولايات المتحدة، بالشراكة مع إسرائيل والسعودية، منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018.
يحرص ترامب دائماً على زعزعة استقرار منطقة الشرق الأوسط وإشعال نار الخراب الاقتصادي فيها لضمان استمرار هيمنة أميركا وحليفتها الأزلية إسرائيل على لعبة موازين القوى، كما أنّه يفعل ما بوسعه لتصفية حساباته في المنطقة العربية لكسب بعض النقاط الإضافية من ناحية الدَّمار، بمختلف أنواعه، الذي يلحق بها وبعيداً عن الأراضي الأميركية.
على الصعيد الإيراني، تضع عملية اغتيال سليماني البلاد في مسار أكثر خطورة سيزيد من تعقيد عملية البحث عن خطة إصلاح جدية لإرضاء المتظاهرين وإطفاء غليان الشارع.
علاوة على ذلك، أظهر الهجوم الأخير على السفارة الأميركية أنّ الحكومة العراقية وقواتها الأمنية غير قادرة على كبح جماح جميع الجهات الفاعلة المسلَّحة في البلاد والتي تتحرك بتحريض من دول معينة، خاصّة عندما تكون تلك الجماعات مصمِّمة على تولّي الأمور بأيديها، وهذا ما يدلّ على وجود انفلات أمني كبير يستحيل معه تحقيق انتعاش اقتصادي قوِّي في مختلف القطاعات بالعراق.
ولن يسلم لبنان أيضاً من حالة عدم الاستقرار الذي يحدق باقتصاده ومواطنيه بسبب الدور الكبير لحسن نصر الله وحزب الله اللبناني داخل المحور الإيراني.
ولا يضيِّع الرئيس الأميركي ترامب أيّ فرصة لشلّ اقتصادات الدول العربية المجاورة لإسرائيل بذريعة ضرورة الحفاظ على التحالف ضدّ داعش، لذلك أصبحت كل خططه مكشوفة الآن، وآن الأوان ليسحب فزَّاعة داعش التي غرسها النظام الأميركي في المنطقة لتبرير تخريبها بدون شفقة ولا رحمة بحجة محاربة الإرهاب.
كما آن الأوان للسعودية، اللاعب الاستراتيجي في المنطقة، أن تتيقَّن أنّ ترامب لن يحرِّك ساكناً لإنقاذها، فلم يُقدم على اتِّخاذ أبسط الخطوات للردّ على الهجمات التي استهدفت منشآت أرامكو النفطية في السعودية في 14 سبتمبر/ أيلول سنة 2019، كما تصرَّف الآن مع الهجمات التي استهدفت السفارة الأميركية في بغداد.
كذلك قال ترامب يوم 1 يناير/ كانون الثاني الجاري إنه لا يريد، ولا يتوقع، اندلاع حرب مع إيران، وذلك عقب اقتحام مقر السفارة الأميركية في بغداد قبل أيام.
ولكون السعودية هي الحليف الاستراتيجي الأوّل لأميركا في المنطقة، لن تتردَّد إيران في الهجوم بالصواريخ على القوات الأميركية التي تمّ نشرها مؤخراً في جنوب السعودية بالقرب من الحدود مع اليمن، وبالتالي سيجد حكام المملكة أنفسهم مرغمين على إنفاق المزيد والمزيد من الأموال على التسلُّح والعمليات العسكرية بدلاً من تسخيرها لضمان تحقيق رؤية 2030.
وهكذا تساهم المشاغبات والمشاكل الأميركية في المنطقة دائماً بشكل أو بآخر في تعطيل التقدُّم الاقتصادي السعودي من خلال تشتيت تركيز حكامها.
يدرك الرئيس الأميركي تماماً حجم العواقب الوخيمة والاحتمالات العالية لردود الأفعال الانتقامية من إيران، لذلك فهو يسعى الآن للعودة إلى طاولة المفاوضات، وهذا ما يُعد حالياً ضرباً من المحال، لأنّه يخشى على نفسه أوّلاً من الهزيمة المذلّة وتكرار سيناريو الاستيلاء على السفارة الأميركية في طهران عام 1979 والذي ساعد على هزيمة الرئيس الأميركي جيمي كارتر في انتخابات عام 1980.
وعلى الرغم من تقاضي ترامب راتباً رمزياً يقدر بـ400 ألف دولار سنوياً، وهو مبلغ لا يقارن بثروته التي قدَّرتها مجلة "فوربس" بأكثر من 3 مليارات دولار، إلّا أنّه يحقِّق مكاسب مالية جمّة من منصبه وذلك من خلال استفادة فنادقه ومنتجعاته وشركاته من حصة معتبرة من الإنفاق الحكومي الأميركي على المسؤولين الأميركيين والوفود الأجنبية.
كذلك يعتبر تقلُّب سعر النفط من أهمّ التداعيات الاقتصادية للاستجابة الإيرانية للوضع الجديد الذي أوجدته الولايات المتحدة عند تعقُّبها لواحدة من أبرز شخصيات النظام الإيراني، إذ سيتأثَّر سعر النفط بالتحرُّكات القصيرة والطويلة الأجل في الحرب الأميركية الإيرانية على الأراضي العربية.
فقد اقترب سعر النفط لأوّل مرّة من 70 دولاراً للبرميل بعد الإعلان عن مقتل سليماني، وذلك منذ آخر ارتفاع سجَّله في منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي نتيجة للهجوم على منشأتي شركة أرامكو السعودية.
وعند ذكر أسعار النفط بالتزامن مع التشاحن الأميركي الإيراني، لا يمكن تجاهل المخاوف من شنّ هجمات تؤثِّر على إمدادات النفط عبر مضيق هرمز الذي تمرّ عبره ثلث إمدادات النفط في العالم، لذلك سيبقى هذا الممرّ الاستراتيجي للطاقة رهينة للتصعيد الإيراني الأميركي المستمرّ، فهل ستتوسَّط أوروبا المعنية أيضاً بهذا الصراع لتهدئة الأوضاع؟
كذلك يقف العراق في موقف لا يحسد عليه وأمام خيارين لا ثالث لهما: إما اختيار العزلة والفقر عند التحيُّز لإيران، أو البقاء كساحة معركة سيكون هو الخاسر الأكبر فيها في حال السماح باستمرار الوجود الأميركي على أراضيه.
ويمكن الجزم بأنّ مستقبل اقتصادات دول المنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتوقَّف على اتّحادها سياسياً واقتصادياً، وهذا هو الرادع الوحيد للتصرُّفات العدوانية الأميركية، لا سيَّما وأنّ حاجة أميركا للدول العربية تفوق بكثير حاجة هذه الأخيرة لأميركا.