تعود أزمة النقص في الدولارات مرة أخرى لتقض مضاجع الدول والشركات في الاقتصادات الناشئة وربما في أوروبا والصين، رغم ضخ مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، لأكثر من 5 ترليونات دولار في الأسواق ومواصلة توسيع ميزانيته لتمويل العجز اللامتناهي في الإنفاق الأميركي.
ويقدر بنك التسويات الدولية النقص العالمي في الدولارات بحوالى 13 ترليون دولار حتى نهاية مارس/آذار الماضي، كما يتوقع أن يرتفع النقص العالمي في العملة الأميركية إلى 20 ترليون دولار بنهاية العام الجاري. ويعود النقص في الدولارات بدرجة رئيسية إلى ضخامة التمويلات العالمية أو الاستدانة التي تمت من قبل الشركات والحكومات عبر إصدار سندات ما يعرف بـ"اليورو بوندز" أو السندات المصدرة بالدولار خارج الولايات المتحدة.
وهي السندات التي أصدرتها الشركات والدول خلال السنوات الماضية منذ أزمة المال العالمية في العام 2008، حينما واجه العالم أكبر أزمة في التمويلات الدولارية وفتح مصرف الاحتياط الفيدرالي الأميركي "حسابات تبادل العملات" للعديد من المصارف المركزية الكبرى في العالم.
وحسب بيانات بنك التسويات الدولية، فإن حجم القروض التي أخذت بالدولار في الاقتصادات الناشئة وأوروبا والصين، تضاعف من 30 ترليون دولار إلى 60 ترليون دولار خلال فترة الـ12 عاماً الماضية التي تلت أزمة المال العالمية.
كما ستحتاج كذلك الدول والشركات لمواصلة خدمة السندات الدولارية التي لم يحن أجل سدادها ولكنها تحتاج إلى خدمة أقساط وفوائد. وتأتي هذه الالتزامات الدولارية الضخمة في وقت تعاني فيه الاقتصادات الناشئة من انهيار في قيم وأحجام صادراتها من السلع الأولية وقطاع السياحة، وهي القطاعات التي تعتمد عليها في الحصول على العملات الصعبة. وحتى الآن من غير المعروف متى سيخرج العالم فعلياً من جائحة كوفيد 19 التي تؤثر على التجارة العالمية والطلب على السلع الأولية وأسعارها المتراجعة. وبالتالي يتناقص حجم العملات الصعبة لدى البنوك المركزية.
ويرى الاقتصادي العالمي دانيال لاكال، أستاذ الاقتصاد بمعهد الاقتصاد العالمي بجامعة مدريد، أن الطلب القوي على الدولار سيتواصل في أسواق العالم، وتبعاً لذلك، فإن كمية الدولارات التي سيضخها مجلس الاحتياط الفيدرالي في السوق لن يكون لها تأثير على سعر صرف الدولار. وكان خبراء في أسواق الصرف يتوقعون أن يتراجع سعر صرف الدولار تبعاً لحجم الكتلة النقدية الضخمة التي سيضخها البنك المركزي الأميركي في السوق.
ويتوقع الاقتصادي دانيال في تحليله لمسار سعر الدولار، أن تتواصل قوة سعر صرف العملة الأميركية خلال السنوات المقبلة، وسيستفيد في ذلك من عدة عوامل، أهمها انهيار سوق السندات بالعملات المحلية في الأسواق الناشئة، وتناقص أرصدة البنوك المركزية العالمية من العملات الصعبة بسبب الظروف الاقتصادية التي تواجهها من جائحة كورونا، وحاجة الاقتصادات الناشئة لمزيد من إصدارات السندات المقومة بالدولار. ويشكل الدولار حصة تفوق 64% من أرصدة البنوك المركزية العالمية بالعملات الصعبة، وفقاً لإحصائيات صندوق النقد الدولي الأخيرة.
وحتى قبل جائحة كورونا الحالية تواجه العديد من الاقتصادات الناشئة أزمة تراجع أسعار صرف العملات المحلية مقابل الدولار، وهو ما يعني عمليا ارتفاعاً حاداً في قيمة خدمة أقساط الديون بالعملات الأجنبية، خاصة الدولار. ويزيد انهيار عملات الاقتصادات الناشئة من قيمة خدمة الديون الدولارية كنسبة من الناتج المحلي.
وكان صندوق النقد قد حذر في تقريره الأخير، 34 دولة من الدول الفقيرة والناشئة من أنها قد تتخلف عن خدمة التزامات ديونها الخارجية بالعملات الصعبة. وهو ما أدى لاحقاً لتأجيل خدمة هذه الديون لمدة عامين على أمل التعافي من جائحة كورونا وعودة الطلب العالمي على السلع الأولية. وتحتاج أكثر من 30 دولة في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا إلى تمويلات دولارية لدعم عملاتها المتدهورة وسط المخاوف من السقوط في هاوية الإفلاس.
ومن العوامل الأخرى التي رفعت الطلب على الدولار تدهور أسعار النفط وتراجع الطلب العالمي عليه، إذ كانت دول أوبك، خاصة دول الخليج العربية، من كبار مزودي مراكز المال العالمية بفوائض الدولارات. وذلك ببساطة لأن النفط من السلع التي تباع بالدولار. ولكن في الأشهر الأخيرة من العام الجاري احتاجت هذه الدول النفطية للدولارات لتغطية العجز في ميزانيات الإنفاق، بسبب ما حدث من انهيار في أسعار النفط وتدهور في الطلب العالمي على الخامات النفطية. وبالتالي كانت النتيجة ارتفاع الطلب على الدولار في دول "أوبك"، بعدما كانت تغذي به البنوك التجارية في المراكز الغربية.
ولاحظ خبراء في مراكز المال الغربية سحب دول الخليج لجزء من أرصدتها الدولارية في البنوك الغربية خلال العام الجاري، كما دخلت كذلك أسواق المال العالمية لتستدين بالدولار، وهو ما أدى إلى ارتفاع الطلب الخليجي على الدولار في مراكز المال الرئيسية، مثل لندن وسويسرا وفرانكفورت.
ويلعب الدولار دوراً رئيسياً في أسواق المال العالمية، إذ إنه يمثل نسبة 80% من الصفقات التي تنفذ في البورصات العالمية، وتوجد في الولايات المتحدة سندات تقدر قيمتها بحوالى 40 ترليون دولار. وبالتالي فإن الطلب على الدولار يتزايد بين المستثمرين الذين يهربون من أسواقهم المحلية في آسيا والشرق الأوسط إلى شراء أدوات المال الأوروبية كملاذ آمن.
كما يستفيد سعر صرف الدولار كذلك من كونه عملة "الملاذ الآمن" في الأزمات المالية ولحظات التوتر الجيوسياسي العالمي، إذ تهرع صناديق الاستثمار الكبرى لشراء الدولار ضمن سياسة التحوط ضد مخاطر تقلبات العملات. ويلاحظ أن التوتر العسكري الحالي على الحدود بين بكين ونيودلهي رفع سعر صرف الدولار بنسبة 0.4%، يوم الثلاثاء.
ويذكر أن سعر صرف الدولار استقر دون تغير يُذكر، أمس الأربعاء، على الرغم من التعليقات السلبية التي أدلى بها رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي جيروم باول عن الاقتصاد الأميركي.
وقال باول إن التعافي الكامل للاقتصاد الأميركي لن يحدث حتى يتيقن الشعب من أن جائحة فيروس كورونا تحت السيطرة. ومثل هذه التعليقات من أي بنك مركزي في العالم عادة ما تقود إلى تراجع سعر صرف العملة، ولكنها لم تؤثر في المقابل على الدولار بل أثرت على سعر صرف اليورو.