أثار قرار هدم "سينما فاتن حمامة" في حي المنيل القاهري منذ أسابيع ضجة على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أُعيد افتتاح هذه السينما (المسماة ميرندا سابقاً) بحضور "سيدة الشاشة العربية" سنة 1984، لتُغلق السينما من جديد بعد أيام من رحيلها سنة 2015. ثم ظل المبنى على حاله حتى صادقَت محافظة القاهرة - بلا اعتراض من وزارة الثقافة - على قرار هدمه من أجل بناء "بُرْج" سكني مكانه كما حدث من قبل مع آلاف المباني القيّمة.
تراوحت ردود الفعل السلبية على الخبر بين الحنين إلى دار العرض السينمائي كمساحة مركزية لدى القطاعات الفقيرة في عموم مدن مصر والقلق على مستقبل الفضاء العام بما فيه من مِعْمَار تاريخي ينتهكه استثمار احتكاري، لا يعنيه إلا الرِبح ولا تَخرُج تَصَوّراته عن المولات و"المدن الجديدة".
تَعكِس إحصاءات "غرفة صناعة السينما" وجهاز التعبئة العامة والإحصاء تَرَاجُعاً شديداً في البنية التحتية للسينما بالفعل: من 350 دار عرض سنة 1954، يقال إنها وصلت إلى 450 في نهاية الخمسينيات حينما كان تعداد السكان أقل من 20 مليون نسمة، إلى 80 الآن بتعداد 100 مليون نسمة.
في "البلد الرائدة"، هناك 16 من أصل 27 محافظة لا توجد فيها شاشة عرض واحدة. ومن إجمالي 400 شاشة تحويها دور العرض الـ80، هناك 180 في مولات تجارية لا يرتادها الجمهور التقليدي ولا ينطبق على ارتيادها تعبير "نخش فيلم" الذي كان يتردد في الدوائر الشعبية.
لعل اقتران سينما فاتن حمامة بنجمة حديثة الوفاة، علاوة على كونها رمز "زمن الفن الجميل"، وراء الالتفات لتلك السينما في هذا التوقيت بالذات، إضافة إلى فضاء النقد الاجتماعي الذي فتحتْه مواقع التواصل بالطبع، خاصة في أعقاب "الربيع العربي". فقد أُغلقت من قبل سينما فريد شوقي إثر رحيل "ملك الترسو" سنة 1998، كما أغلقت سينما ماجدة في محافظة المنوفية، ولكن بلا إنترنت سريع ولا نشطاء غاضبين لم يكن هناك رد فعل يُذكر.
ولا شك أن القَفز على الصحراء - مشروع العاصمة الجديدة مثلاً - ليس إلا تَهَرُّباً من استحقاقات التنمية الشاملة والحفاظ على الموارد الثقافية القائمة، في مقابل التشدق بقوة مصر الناعمة. فلا قوة ناعمة أو خشنة بلا ثقافة حية في متناول أغلبية سكان البلاد، ولا مستقبل لهذه لأغلبية في ناطحات السحاب والمساحات المسيّجة إلا التسفيه والتجهيل ومن ثم إفساح المجال أمام التطرّف والعنف.
ولا يخفف مما سبق أن انقراض دور السينما ظاهرة عالمية تعكس تصاعد تقنيات تسلية لا تتطلب مغادرة البيت، كما تعكس تهميشاً ممنهجاً لإنتاج ثقافي غير مربح بما فيه الكفاية. وقد تسارعت وتيرة العزوف عن السينما في مصر إثر انتشار القنوات الفضائية بداية التسعينيات ثم حلول وصلات الإنترنت ذات النطاق العريض (برودباند) سنة 2000 ودخول الهواتف الذكية في السنين العشر التالية.
في مسلسل "هذا المساء" (2017)، وهو أحد أكثر أعمال الدراما الرمضانية إتقاناً وإثارة، تُمَثِّل دار السينما المهجورة في الحي الشعبي فضاء مغلقاً وساكناً، بينما يُستخدم الهاتف المحمول القادر على تصوير وتبادل مقاطع الفيديو كأداة ابتزاز جنسي. وهو أبلغ مجاز لتغيير المفردات التكنولوجية للواقع.
فكما تَرَدّد على الجانب الآخر من الجدل الذي أثاره هدم "سينما فاتن حمامة"، لم تكن دور العرض مشروعات اقتصادية خاسرة أجبرت أصحابها على إغلاقها فحسب. لقد تحولت أيضاً إلى خرابات خطرة وأماكن لممارسة نشاطات غير مشروعة.
تنعى إحدى أشهر قصائد الشاعر العراقي سركون بولص (1944 - 2007) دار عرض كان الشاعر يرتادها في صباه في بغداد: "قالوا لي.. / إنهم هدموا سينما السندباد! / يا للخسارة. / ومن سيُبحر بعد الآن؟ / من سيلتقي بشيخ البحر… سبارتاكوس، شمشون ودليلة / فريد شوقي، تحية كاريوكا، / ليلى مراد؟ / وهل يمكننا أن نُحبّ الآن؟ / كيف سنحلمُ بعد اليوم بالسفر؟".
وكأن كلمات بولص توحي بكل ما حدث في العراق بلا إشارة واحدة إلى الحرب أو الاحتلال أو العنف الطائفي.. فهل يمكن أن يكون لانحسار سينمات القاهرة دلالات باطنية مشابهة؟