بات ما نتمتع به من حريات يفرض علينا الاعتراف بأننا نعيش في عالم مختلف، بعد المتغيرات التي طالت عالمنا. صار بوسع البشر حتى في بلداننا العربية، قراءة عشرات الصحف المحلية والعربية والصحافة العالمية بلا رقابة، باستخدام الشبكة العنكبوتية، ما سهّل الحصول على معلومات بلا قيود، والدخول الى المواقع المشبوهة وغير المشبوهة، والاطلاع على ما كان يعتبر في منتهى السرية.
التغلب على الحجب أصبح عادياً، كذلك التعبير عن آرائنا وانتقاداتنا في الفيسبوك وغيره، مهما بلغت من الحدة أو السخافة، وإطلاق التغريدات المناهضة، ولو كان ضد رئيس دولة غربية، إضافة إلى التكلم بالهاتف الجوال مع أي مدينة في العالم، بلا مقابل.
عصر من الحرية المطلقة مقارنة بما كنا نتخبط فيه كالعميان في سعينا وراء معلومة، وليس بالوسع التأكد من صحتها. أما اليوم، فالمعلومات مبذولة، وبالإمكان التيقن منها، حتى غدونا نشكو من غزارتها، وصعوبة متابعة تدفقها، والإحاطة بها، كأنه لا ممنوعات، بعدما أصبحت وسائل الوصول إليها متوافرة.
المفترض، أن يسود التفاؤل، بينما على العكس، يسود التشاؤم ليس بلداننا وحدها، بل العالم كله. إذ لا يخفى أن هذه الحرية المطلقة، ليست سوى شكليات ومظاهر احترفت حكوماتنا تصديرها من قبل، بالمهرجانات الجماهيرية والمسيرات المليونية، والتي استبدلتها لاحقاً بما يوفّر فاعلية أكبر.
الدولة التي كانت تضع يدها على وسائل الإعلام الأساسية من صحافة وقنوات تلفزيونية، لم تعد تكتفي بالمحلية، بل اشترت قنوات ومحللين سياسيين، معروضين للبيع لمن يدفع. إضافة إلى جيش إلكتروني مهمته تشويه الخصوم والتحريض عليهم، عدا عن قلب الحقائق. صحيح أن الحصول على المعلومات ما زال يتمتع بقدر من الحرية، لكن المعلومات نفسها، ربما كانت كاذبة، لا تتحلى بالمصداقية، تحت تأثير حملات الذباب الإلكتروني.
حققت الأنظمة الشمولية تقدماً عملياً، تجلى في عدم توجيه تهم باطلة، وإقامة محاكمات جائرة، وانتزاع اعترافات قسرية... تراجعٌ يبدو إنسانياً، لم يكن إلا لمنع إثارة احتجاجات حول حقوق الانسان، لفترة طويلة لا تهدأ إلا بصعوبة، تتجدد بين فترة وأخرى، طالما المعارض ما زال معتقلاً وحياً.
استبدلت الأنظمة وسائلها السابقة، باعتماد الخطف والاغتيالات، حصيلته مقتل صحافي كل يوم، بالتالي لن يكون الخاشقجي آخرهم. هذا بالنظر إلى أن الاغتيال يثير احتجاجاً لمرة واحدة، ولمدة محدودة، سرعان ما يلفلف، أو يطويه الاغتيال التالي. استخدمه الكوري كيم جونغ والروسي بوتين، والأنظمة العربية بكفاءة وغباء. بالمناسبة، النظام السوري كان سباقا إليها منذ زمن بعيد، بحيث أصبحت قديمة، من دون التخلّي عن برنامجه في التعذيب والقتل.
إذا كان من حريات، فقد منحت للإباحية الجنسية في ظهور آلاف المواقع يومياً، تدفع البشر بأعمارهم كافة نحو الانكفاء الى الشاشات الملونة، عالم بلا احتجاجات واغتيالات وخطف وتغييب قسري. عالم من المتعة، وكأن الحرية لا تجد مردودها إلا بالإباحية في عالم يفتقد البشر فيه حقوقهم الإنسانية.