لم تواجه منطقتنا عمليات معتبرة في تزييف العلوم، فالعلم لدينا مفتقد أصلاً حتى يُعمَل على تزييفه، وإن جري بشكل محدود في تزوير علامات تجارية مشهورة، لكن كان للبلدان الآسيوية، مثل تايوان قصب السبق في هذا المضمار، وغصّت أسواق العالم ببضائعها لرخص أسعارها بالمقارنة مع الأصلية.
اقتبست الأنظمة الشمولية العربية صناعة الزيف العالمية في مجالات أخرى، لا تحتاج إلى آلات معقّدة وأنابيب مخابر، وزادت عليها ما اعتُبر إضافة شرقية نوعية، لا سبيل إلى دحضها على الرغم من هشاشتها، فبرعت في تزوير الانتخابات، والتلاعب بصناديقها غير السرية، فالسلطات لم ترض إلا بالتأييد الكاسح، وبأصوات تقارب الكمال المطلَق، فلا وجود لمعارِض أو معترِض، وإلا كان ناكراً للجميل، ولقد أثبت واقع الانتخابات أن المظاهرات والاحتجاجات دخيلة على البلاد، وصناعة مدسوسة صُدّرت إلينا من الخارج، ما حتّم القضاء عليها.
لم يتورّط الغرب بسفاسف تزوير الانتخابات واختلاق الأصوات. اهتم بصناعة الحقائق العلمية، ولم يتوان عن التخلّي عنها بحثاً عن حقائق أكثر فاعلية، فالعلم رهين المختبرات لا الأمزجة، مع أنه ترك حصّةً من العلم نهباً للمحتالين والباحثين عن الإثراء السريع، فأصبح للعلم الزائف نصيبٌ مغرٍ، يجني المال بضربات خاطفةٍ، للحظ فيه قسطٌ، وللطيبة أيضاً، وكان للغباء والجهل والضعف الإنساني دور كبير في تصديقه... وهكذا أصبح العلم الزائف، صناعة معترفاً بها، تستثمر على نطاق واسع في الصحافة اليومية والكتب والسينما والخيال العلمي.
هذه الصناعة لم تبق حبيسة دول الغرب، بل عمّت العالم، فالغرب مثلما ينشر حقائقه العلمية، ينشر حقائقه الزائفة، مهما يكن فهي جزءٌ من المنوّعات الطريفة التي تُعدّ من الثقافة الجماهيرية، لذلك كان من الطبيعي، أن تكون قصّة "مثلّث برمودا" قصّة أميركية، شكّل فيها ضياع السفن والطائرات واختفاؤها قصّة لم تعد خيالية، بل أقرب إلى الوقائع الغريبة التي تُرضي نهم البشر إلى ما هو غير عادي، مع أن العلم دحضها مراراً، لكن ما زالت الكتب تصدر حولها، وتعالجها السينما، ويتناولها الخيال العلمي على أنّها من الحقائق التي لا تفسير لها. واستمر المروّجون لها ينتفعون من إثارتها من وقت لآخر.
كذلك تحضير الأرواح، والبيوت المسكونة بالأشباح، والقادمون من الفضاء الخارجي، وقراءة الحظ والأبراج، وشفاء الأمراض بالأدعية والتعاويذ، وإجراء العمليات الجراحية من دون تدخُّل جراحي... لا يغيب عن هذه العلوم الوهمية تمرُّسها بفنون الخداع. واللافت أن البشر يتشابهون في كل بلد، دونما تمييز بين شعب وشعب، في الحاجة إلى تصديقها، وعدم تصديقها في الوقت نفسه. كما أن الإقبال عليها يُشجِّع عليه عامل الفضول.
ما يثير المخاوف، في العالم المتقدّم، استخدام التكنولوجيا لتزييف الحقائق، والتأثير في قرارات الدول السياسية والاقتصادية، دون استثناء القرارات الإنسانية، بعدما أصبح تشكيل الجيوش الإلكترونية حقيقة واقعة تُستغل لإيقاد نار الفتنة، على نمط القنوات الفضائية العاملة على تصنيع الأخبار الزائفة وترويجها.