تجتمع في المعرض المقام حالياً في "صالة بوشهري" في الكويت، وكأنما بتوافق عجيب، أعمال أكثر من جيل من الفنانين العراقيين متنوّعي المدارس والاتجاهات الفكرية، كما اجتمعت في تنفيذ أعماله أكثر من وسيلة فنية تنوّعت بين الطباعة والرسم والتقطيع والإلصاق (الكولاج).
هذان الجانبان تلاقيا كما يتلاقى خطّان ويتمازجان؛ تنوّع المدارس الفنية التي شهدتها مسيرة الفن التشكيلي العراقي على مدى القرن الماضي وصولاً إلى الوقت الراهن، وفن الغرافيك الذي هو فن يستخدم فيه الفنان وسائط متنوعة.
في هذا التلاقي يتقاطع الجانبان أو يتشابك الخطّان كأنما في فضاء لازمني، لا تتعاقب فيه المراحل والسنوات. الكل حاضر، ومتواقت، مَن وُلد في مطلع القرن العشرين ومن جاء في منتصفه ومن أطل على العالم في نصفه الثاني. والأكثر إثارة دلالة حضور هذا الفن الجامع لملامح تجارب إنسانية تمتد عصوراً مغرقة في القدم وصولاً إلى الأزمنة الحديثة، حتى وإن لم يع بعض فناني هذا الخط عمقه الغارق في القدم.
طبيعة هذا الفن؛ مواده المتنوعة من رسوم وحروف وخدوش وطباعة على حجر أو حرير، هي مصدر هذا الإحساس بغياب الزمن والحضور الشامل للمكان، كأن الفنانيين من مختلف الأعمار والاتجاهات اجتمعوا في مكان واحد وبهذا تغلّبوا على الزمن الذي ينصح أب ابنه، حسب الأميركي وليم فوكنر (1897- 1962) في روايته "الصخب والعنف"، أن لا يحاول حتى منقطع النفس أن يقهر الزمن.. لأن ما من أحد ربح هذه المعركة".
ويبدو أن فناني الغرافيك، هؤلاء، سواء الذي جمعتهم "صالة بوشهري" أو من يتوزّعون في مختلف أرجاء وأزمان وهويات عالمنا في الماضي البعيد والقريب، يخوضون معركتهم مع الزمن منذ عصور توصف بأنها ما قبل التاريخ، وأنهم ربحوا هذه المعركة.
في البحث عن معنى هذا، ليس من المجدي العودة إلى أصل كلمة "غرافيك" في اللغة اليونانية، كأن يقال أن معناها أي شيء يعرضه فنان على سطح ما، سواء كان جداراً أو قطعة قماش أو ورق أو حجر أو شاشة حاسوب، ذي صلة بإنشاء علامات أو خرائط أو رسوم أو رموز أو تصاميم هندسية. وتلخيص كل هذا بإيجاد توليفة من نص لغوي أو خطوط مجردة وصور على سطح من هذه السطوح.
المُجدي هو تجاوز الأزمان والعودة بالذاكرة إلى الوراء، إلى تصاميم الأشكال الحيوانية التي رسمها أناسٌ بدائيون على جدران كهوف مثل كهوف "طاسيلي" في جنوبي شرق الجزائر (عشرة آلاف سنة ق.م) وكهف "آلتاميرا" في شمالي غرب إسبانيا الذي نقشت على جدرانه وسقوفه غزلان وثيران ملوّنة في العصر الحجري القديم، وكهف "شوفيه" في جنوبي فرنسا (30 ألف سنة ق.م)، وكهف "لاسكو" الفرنسي بتصاميمه الأقرب عهداً (14 ألف سنة ق.م)، والعودة إلى الرسوم على صخور "بيمبيتيكا" في الهند التي رسمت قبل 7000 سنة ق.م، وأيضاً إلى أعمال أهل أستراليا الأصليين، وبقية أماكن هذا الفن ذي التاريخ الطويل في الكثير من أنحاء العالم. كل هذا، مع ابتكار الكتابة بين أربعة آلاف وثلاثة آلاف عام ق.م، وضع أساس هذا الفن المسمى غرافيكي.
ومع خروج الإنسان من عصر الكهوف، بدأت التصاميم الغرافيكية تزين الفخاريات، جرار ومزهريات اليونان (550 ق.م) الأكثر شهرة ربما، ولكن توجد أيضاً فخاريات المجتمع الزراعي الذي ازدهر في ما يطلق عليها مرحلة "تل حلف" في شمالي وادي الرافدين بين 5200 ق.م و4500 ق.م، تلك التي تعد من أجمل الفخاريات المنتجة في منطقة تمتد بين سورية والعراق. ثم أصبحت التصاميم الغرافيكية تزين صفحات الكتب الدينية، وتؤثر على فن الرسم، كما هو لدى أمثال النمساوي غوستاف كليمت (1862- 1918) والبريطاني دانتي غيبيريل روستي (1828 1882).
ولدينا أشهر هذه التصاميم في البلدان العربية والإسلامية، ممثلة بكتابة القرآن الكريم بخط ذي زوايا حادة يدعى الخط الكوفي، وأضيفت تقانات غرافيكية زينة للهوامش، ثم دخل خط النسخ ذي الخطوط المنحنية، وخطوط أخرى لم ينقطع تغاير أساليبها حتى الآن.
ولا بد من الإشارة إلى تأثير فن الطباعة على الخشب القادم من الشرق، من اليابان والصين وفيتنام، الذي أنشأ تصاميم غرافيكية ذات أبعاد جمالية كان له تأثير بالغ على الفن المعاصر بمختلف مدارسه.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى؛ هذا الفن الذي بدأ تشخيصياً على جدران الكهوف وبدأ يقترب من سماوات التجريد، هل هو تجرّد وتنزيه للعين والحس والتحرّر من قبضة المشخص والماثل بالأمس واليوم والغد؟ وما الذي يحاوله تشكيلي هذا الفن المثقل بالعصور غير ذلك؟
في البحث عن جواب، من المفيد هنا الالتفات إلى وعي بعض من شاركت لوحاته في هذا المعرض. الفنان ضياء العزاوي (1939) ذو الطابع المميّز، والذي يبلغ تميز لوحاته حد الظن أنه ثبت على تشكيلات تكاد تتماثل وهي تخرج من أعماق تاريخ العراق وآثاره القديمة، يرى من وجهة نظر تقانية أن فن الغرافيك، ضمن حركة تشكيلية عربية لا تذهب إلى ما قبل القرن العشرين: "يمكن أن يكون الباعث على ظهوره، سواء كان طباعة على الحجر أو الحرير، متغيرات فرضها تنامي الحركة الفنية.. ويمكن اعتباره محاولة نوعية لتوجه الفنان نحو تجديد معرفته، بل واكتشافاته لعوالم لم يتعرف عليها في التقاليد المعروفة للرسم بالزيت".
ويقترب الفنان نوري الراوي (1924- 2014) أكثر من تفسير تحوّله هو إلى لغة تشكيلية من هذا النمط، فيقول: "نشأتي المعرفية يمتزج فيها الرسم بحالة وجدانية/عاطفية، لهذا لغة التشكيل لديّ قادرة على احتضان الموسيقى والأدب" في إشارة إلى "تزيينه" لوحاته بأبيات شعرية من التراث العربي حسب تعبيره.
ويواصل الفنان محمد مهر الدين (1938- 2015) الغوص أكثر في مسائل تقانية، فيؤكد في لقاء معه أن ما لديه ليس تغييراً في الأسلوب، بل تطور أسلوبي، يقول: "أدخلت الغرافيك مع الرسم، والتقطيع والإلصاق، والمواد المختلفة والتقانات الجديدة، مستعيناً بدافع من تجاربي بتقانات الانترنت والتقانية الرقمية.. لأن كل موضوع ومضمون يدفعني إلى أسلوب".
هذه المهارات الأسلوبية نجدها في سعي فنانين آخرين، مثل رافع الناصري (1940- 2013)، وصالح الجميعي (1939)، وآخرين، ولكنها ستمتزج بالمنحى الروحي وتتطوّر مع الفنان شاكر حسن آل سعيد (1925- 2004)، ويترسخ الجانب الإشاري لديه، وتختزل الكلمات إلى مجرد حروف، أو كتابات وخدوش غير مكتملة لا يُعرف هل من كتبها تركها هكذا أم هو الزمن وتقلبات الطبيعة. هي النزعة الصوفية كما قيل كثيراً.
ولكنها عندنا رؤية جمالية لما يعكسه الفناء المحيط بكل شيء، تماماً كما حدث مع فنانين آخرين رأوا في التماثيل المحطمة قوة تعبيرية، وفي العيون الذاهلة الباقية من وجه تمثال روح حضارة تتغلب على الزمن ولو بشظية من حجر أو جدار متآكل.
من الممكن الاستطراد دائماً، وكتابة صفحات وصفحات عن هذا النمط الفني الذي يفوق بتراثه الغني أي نمط فني آخر، إلا أن إشارة واحدة تكفي في مقالة مثل هذه؛ إن معرضاً واحداً بهذا الجمع نجح في توليد إيحاءٍ غامر لا يذكّر فقط بمراحل زمنية محددة من زمننا هذا، بل بعصور وعصور اختلطت فيها أصوات ولغات وأزمان قد يثيرها بكل ما تحمل خدش فوق جدار، أو نصف كلمة، أو ضربة فرشاة بلا غاية، كما هو حال هذا الفن.