يُمكن القول إن الخلاف الذي اندلع أمس الأربعاء، بين "هيئة تحرير الشام" من جهة و"حركة نور الدين الزنكي" من جهة أخرى قرب بلدة الدانا في ريف إدلب الشمالي قرب الحدود التركية، عبارة عن مناوشات محدودة، تطورت إلى اشتباكات مُسلحة، تم تطويقها ضمن نطاق جغرافي ضيق، لتفضي إلى سيطرة "الهيئة" ("جبهة فتح الشام"-"النصرة") على حاجز ومقر لـ"حركة الزنكي"، والتي كانت حتى يوليو/تموز الماضي أحد المكونات الرئيسية في "هيئة تحرير الشام"، قبل أن تنسحب إثر المعارك التي أفضت إلى تهميش نفوذ "حركة أحرار الشام".
لكن الحادثة عموماً تكشف هشاشة العلاقة بين الجانبين، والتي تقلبت ما بين تقارب وخصومة، لتحالف ثم تنافر، وهي طبيعة العلاقة بين الكثير من الفصائل المسلحة شمال البلاد وجنوبها. إذ إن تعقيدات لعبة المصالح الفصائلية في كل مرحلة على الصعيد الميداني، وتأثرها طرداً مع المستجدات السياسية، دفعت في كثير من الأحيان، إلى تحالف فصائل كانت خصوم الأمس، أو التحارب مع حلفاء مفترضين. وكانت "حركة الزنكي" اتهمت "تحرير الشام" بتقليص نفوذ مقاتليها على نقاط تماس مع النظام السوري، بينها جبهة رتيان شمالي حلب، الأمر الذي تطور إلى خلاف تبعه اشتباك في قرية دير حسان شمال بلدة الدانا بنحو كيلومترين، قرب الشريط الحدودي مع إقليم هاتاي التركي. وانتهى الاشتباك المحدود ضمن هذه النقطة، فجر الأربعاء، بسيطرة "تحرير الشام" على حاجز ومقر لـ"الزنكي" في دير حسان، من دون ورود أنباء عن سقوط قتلى.
ولا يعتبر هذا الاشتباك الأول من نوعه بين الجانبين، إذ كادت مناوشات مماثلة، اندلعت أواخر أغسطس/آب الماضي، أن تنفجر إلى اشتباكات واسعة، إثر اتهام "الزنكي" لـ"الهيئة" حينها بالوقوف خلف مقتل القيادي في "الزنكي" في قرية تلعادة قرب جبل سمعان، سيد برشة، وهو ما نفته "الهيئة" لاحقاً، مدعية أن برشة قتل جراء "خلاف عائلي". واعتبرت الحادثة وقتها، التي استدعت حشد الجانبين عسكرياً في مناطق حول الدانا في ريف إدلب الشمالي، قبل احتواء "الأزمة"، الأولى بعد خروج "حركة نور الدين الزنكي" من تحالف "هيئة تحرير الشام"، الذي كان ولد بداية هذه السنة، إثر خسارة المعارضة السورية لشرقي حلب، وانعقاد أولى جولات أستانة، وتأكيد مخرجاتها على ضرورة محاربة جميع الأطراف لتنظيم "داعش" و"جبهة النصرة"، الأمر الذي دفع الأخيرة، لتنفيذ عمليات عسكرية استباقية ضد من اعتبرتهم فصائل تهدد وجودها وشاركت في أستانة، فولد تحالف "هيئة تحرير الشام"، في الوقت الذي قررت فيه فصائل صغيرة شمال غربي سورية الانضمام إلى "حركة أحرار الشام" لتجنب ابتلاعها من "النصرة".
وترنحت علاقة "النصرة" بـ"الزنكي" قبل معركة شرقي حلب، التي انتهت في ديسمبر/كانون الأول 2016، لكن انعكاسات سقوط حلب بيد محور النظام-إيران-روسيا، أفرزت واقعاً ميدانياً-سياسياً جديداً شمال غربي سورية، ارتأت معه "حركة الزنكي" أن تنضم إلى تحالف "هيئة تحرير الشام" الذي تقوده "جبهة فتح الشام"، وضم عند تأسيسه بالإضافة إلى "الزنكي" شخصيات ومجموعات انشقت عن "حركة أحرار الشام" و"لواء الحق"، و"جبهة أنصار الدين"، ومجموعات من "جيش السنة"، وفصائل صغيرة مثل "كتائب ابن تيمية". لكن أولى علامات الشرخ في جسد تحالف "هيئة تحرير الشام"، بدأت تظهر وتتسع سريعاً، مع قرار "الهيئة" بفتح معركة ضد "أحرار الشام"، استمرت ثلاثة أيام، وانتهت في 21 يوليو/تموز الماضي، بتقويض قوة "الأحرار" لحساب توسيع وتعزيز سيطرة "جبهة فتح الشام" على إدلب وغربي حلب. لكن هذه المعركة، دفعت "الزنكي" ومجموعات وفصائل ضمن تحالف "الهيئة" للانفكاك عنها، كونها رفضت فكرة استئصال "أحرار الشام". وليس واضحاً وسط تشابك وتباين المصالح وموازين القوى، ما إذا كانت "هيئة تحرير الشام" تسعى لابتلاع "الزنكي"، لكن "النصرة-جبهة فتح الشام" استأصلت معظم خصومها المحليين من فصائل "الجيش السوري الحر" في حملات متتابعة على مراحل شمال غربي سورية، ولم تنته هذه الحملات، مع دفع فصائل أخرى للذوبان ضمن "حركة أحرار الشام"، مثل "جيش المجاهدين" و"تجمع فاستقم" و"صقور الشام".