كما كانت الضربة الثانية في بلدة تنّورين (قضاء البترون)، إذ اكتسحت اللائحة المدعومة من الوزير بطرس حرب مقاعد المجلس البلدي كاملة من دون تسجيل أي خرق من قبل اللائحة المدعومة من عون وجعجع، إضافة إلى فوز تحالف حرب، و"الكتائب" وتيار المردة (بزعامة النائب سليمان فرنجية)، بعدد كبير من بلديات قضاء البترون.
ويمكن لهاتَين المعركتَين أن تلخّصا الجو الانتخابي على الساحة المسيحية في الشمال، إذ لم يتمكّن التحالف بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ من كسر المنظومة السياسية الشمالية المتركزة أساساً على الزعامات المحلية والبيوت التقليدية. وهو ما سبق لعون، بدعم من جعجع، أن نجح في كسره في أكثر من دائرة انتخابية خلال الاستحقاق البلدي. فتمكّن هذا التحالف من الانتصار على تجمّع الزعامات التقليدية في بلدية جونية (كسروان)، بالإضافة إلى ضرب زعامة آل شمعون في دير القمر (الشوف) وما تبقى من إرث لها والمتمثل بالنائب دوري شمعون.
كما أنّ المعركة الأبرز التي نجح فيها التحالف كانت في معركة زحلة (البقاع الأوسط)، إذ نجح بالتحالف مع حزب الكتائب اللبنانية في كسر زعامتَي آل سكاف وآل فتوش التاريخيّتَين، على الرغم من أن نسبة الأصوات التي حصل عليها تحالف الأحزاب الثلاثة لم يتجاوز الـ43 في المائة، لكنهم ربحوا كلّ مقاعد المجلس البلدي بسبب تنافس آل سكاف وآل فتوش، بدل التحالف.
طبعاً مع التذكير أنّ التفاهم السياسي بين عون وجعجع لم يتجلّ بتحالف انتخابي كامل، إذ شهدت بلدات عدة مواجهة مباشرة بين الطرفين، كان أبرزها بلدة الحدث (أكبر البلديات في قضاء بعبدا)، وانتهت بفوز اللائحة العونية بشكل كاسح.
لكن ما شهدته الانتخابات البلدية على الساحة المسيحية حمل الكثير من المفاجآت، كان أبرزها خروج الناخبين المسيحيين في بيروت عن الالتزام بدعم الخيار العوني ــ القواتي، وترشُّح الثنائي في لائحة تحالف السلطة برعاية رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري. فلم تنل لائحة السلطة سوى ثلث الأصوات المسيحية، مقابل نيل اللائحة المدعومة من المجتمع المدني ثلثَي الأصوات. كما كانت المفاجأة الأخرى، خسارة رئيس اللائحة المدعومة من التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية في جزين (جنوب لبنان)، بما يحمل ذلك من تعبير شعبي على رفض الإملاءات الحزبية واللوائح المعلّبة على الناخبين الجنوبيين.
وفي حين كانت صفعة جزّين موجّهة بشكل مباشر لعون، جاءت النتائج في بلدية بشرّي، معقل القوات اللبنانية ومسقط رأس جعجع، لتشكّل ما يشبه "السقطة" للقواتيين، إذ نال منافسوهم من أبناء العائلات ما يقارب الأربعين في المائة من الأصوات. فكان الصوت الاعتراضي على خيارات جعجع البلدية داخل "البيت القواتي" صارخاً ورافضاً لما اعتبره المعترضون "تعيينات بلدية"، في إجراء مشابه لما حصل في جزين.
بذلك، يكون التحالف الانتخابي بين عون وجعجع قد مرّ في مطبّات عديدة خلال الاستحقاق الانتخابي، تمكّن من تجاوز بعضها وسقط في بعضها الآخر. لكن الأهمّ على هذا الصعيد أنّ الطرفَين نجحا في تكريس التفاهم السياسي الذي يجمعهما، ليس من باب التحالف وخوض الانتخابات جنباً إلى جنب، بل تحديداً لجهة التمكّن من تأمين الالتزام شبه المطلق لمناصريهم للوائح المشتركة، على الرغم من التاريخ الحافل بالعداوات السياسية والشخصية والمعارك العسكرية والتي كان هؤلاء الأنصار جزءاً أساسياً منها.
استبق العونيون والقواتيون الانتخابات البلدية في المناطق اللبنانية برفع الشعار القائل إنّ الحياة السياسية، ومنها العمل الإنمائي والتنمويي، لا يمكن أن تستقيم وتتطوّر إلا بفعل العمل الحزبي. فكان هذا الشعار منطلقاً لفتح مجموعة من العناوين أبرزها إقفال المنطق الزبائني الذي يربط الزعيم أو السلطة بالناخب. لكن لا بد من التذكير أيضاً أنّ عون تحوّل بدوره إلى منظومة مطوّرة نوعاً ما للعمل السياسي العائلي بفعل حصرية التمثيل والقيادة بأصهاره وأقاربه. في حين لا يزال جعجع يرفع شعار حزب القوات اللبنانية لكن يدير بنفسه أيضاً معظم الملفات الأساسية، وتتولى زوجته النائب ستريدا جعجع اتخاذ القرارات الإدارية في بشري أو حتى على المستويين التنظيمي الحزبي والنيابي.
وعلى الساحة المسيحية أيضاً، وفي ما يخص البيوت السياسية التقليدية، فإنّ مواجهة زعامة آل فرنجية وآل معوّض في زغرتا (شمالي لبنان)، كان لها طعم خاص، إذ تمكّنت لائحة مدعومة بالكامل من المجتمع المدني من الحصول على ما يقارب الـ25 في المائة من الأصوات في المدينة في مواجهة الزعامتَين التاريخيّتَين المتحالفتَين بلدياً والمتنافستَين تاريخياً.
أتت أرقام اللائحة المدنية في زغرتا لتؤكد أنّ الحالة الاعتراضية انتشرت على كل الأراضي اللبنانية وفي مواجهة كل الأحزاب والشخصيات والأطراف السياسية والتقليدية المشاركة في السلطة أو الحليفة لها. وهو ما يدعو إلى القول إنّ الاستحقاق البلدي لم يكن فقط ساحة لاختبار القدرات والتوازنات الانتخابية والسياسية، بل أيضاً شكّل مساحة عامة لإيصال أصوات اعتراضية والتعبير عن أنّ المسلّمات الحزبية قابلة للاهتزاز.