مع إقدام منظمة "إيتا" الانفصالية، المطالبة باستقلال إقليم الباسك، الواقع بين إسبانيا وفرنسا، على التخلي عن الأسلحة والمتفجرات والذخائر التي تمتلكها، تكون قد اقتربت من إنهاء حملة انفصالية مسلحة استمرت ما يقرب من 50 عاماً، لتطوي بالتالي صفحة صراع مسلح عانت منه أوروبا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أكدت السلطات الفرنسية استلام مخازن الأسلحة، فيما اعتبرت الحكومة الإسبانية أن مبادرة "إيتا" إيجابية لكنها غير كافية، مطالبةً الحركة بحل نفسها.
وقد تأسست "إيتا" التي يختصر اسمها مصطلحات "أرض الباسك والحرية"، في عام 1959، كتعبير عن غضب سكان الباسك من القمع السياسي والثقافي الذي كان يمارس بحقهم تحت الحكم العسكري الفاشي بقيادة الدكتاتور، فرانسيسكو فرانكو، في إسبانيا. وعقب عودة هذا البلد للحكم الديمقراطي في سبعينيات القرن الماضي، حصل إقليم الباسك على قدر أكبر من الحكم الذاتي. وفي هذا السياق، تسبب استمرار الحركة في التفجيرات والاغتيالات في تراجع التأييد الشعبي لها.
وتسببت العمليات العسكرية التي كانت تنفذها الحركة بمقتل أكثر من 850 شخصاً وبجرح الآلاف، خلال حملتها من أجل إقامة وطن مستقل بشمال إسبانيا وجنوب غربي فرنسا. وكان أول ضحية معروفة لـ"إيتا" هو قائد جهاز الأمن الوطني في سان سيباستيان بإقليم الباسك الإسباني، ميليتون مانزاناس، الذي قتل بإطلاق الرصاص عليه عام 1968. أما آخر ضحية، فكان شرطياً فرنسياً قتل بالرصاص في عام 2010، بضواحي باريس.
وأول خطوة رمزية من جانب "إيتا" تمثلت برفع علم الباسك المحظور بلونيه الأحمر والأخضر والمعروف باسم (إيكورينا) قبل أن تتصاعد حملتها في ستينيات القرن الماضي وتتطور إلى عنف قوبل برد دموي من جانب نظام فرانكو. ولعل أبرز العمليات العسكرية تتمثل في استهدافها لوريث فرانكو في الحكم، لويس كاريرو بلانكو، عام 1973، من خلال حفر نفق تحت طريق كان يمر فيه كل يوم لحضور قداس. وكدّس أفراد "إيتا" المتفجرات في النفق وفجروها، مما أدى إلى تطاير سيارة بلانكو لتستقر على مبنى مكون من خمسة أدوار وقتل هو في الحال. وحوّل اغتياله مسار التاريخ إذ أدت الإطاحة بوريث فرانكو إلى تحول إسبانيا لدولة ملكية دستورية.
ودخل الصراع بين "إيتا" وإسبانيا في مسار سلمي، غير خالِ من الصعوبات، اعتباراً من عام 2011. وكانت الحركة أعلنت وقفاً لإطلاق النار في تلك السنة، لكنها لم تقم بعدها بتسليم أسلحتها المتبقية لديها. بيد أن احتفاظها بالسلاح لم يحل دون تراجع إمكاناتها، لأنها ضعفت في العقد الماضي بسبب اعتقال المئات من أعضائها وضبط مخازن أسلحة تابعة لها، في إطار عمليات أمنية إسبانية فرنسية مشتركة.
وفي ما يتعلق بخطوة يوم السبت 8 إبريل/نيسان 2017، أعلنت "إيتا" أنها سلمت أسلحتها ومتفجراتها إلى وسطاء مدنيين أعادوا تسليمها بدورهم لأجهزة الأمن الفرنسية، في مدينة بيون الفرنسية. وأكد الرئيس الفخري لـ"رابطة حقوق الإنسان"، ميشيل توبيانا، وهو ممثل عن الوسطاء، في بيون، أن الوسطاء المعروفين باسم "صانعي السلام" سلموا السلطات قائمة بإحداثيات ثمانية مواقع تخزن فيها "إيتا" ترسانة أسلحتها. وأضاف أن المخازن شملت 120 سلاحاً نارياً وثلاثة أطنان من المتفجرات وآلاف طلقات الذخيرة.
وتسلمت قوات الأمن الفرنسية أسلحة "إيتا" في ثمانية مواقع، بحضور 172 مراقباً، بينهم الناشط السياسي الفرنسي المعروف بمناهضته للعولمة، جوزي بوفي. وفي هذا السياق، أكد وزير الداخلية الفرنسي، ماتياس فيكل، في مؤتمر صحافي في باريس، رسمياً تسلّم الأسلحة. وقال إن الأمر يتعلق بخطوة كبيرة.
وتأتي هذه الخطوة في وقت تنتشر فيه النزعة القومية في أنحاء أوروبا مع سعي اسكتلندا ومنطقة كتالونيا الإسبانية لإجراء استفتاء على الاستقلال، فيما حثت حركة "شين فين" على إجراء تصويت لفصل إيرلندا الشمالية عن بريطانيا.
وكان مصدر حكومي إسباني أعلن أن مدريد لا تصدق أن الحركة ستسلم كل أسلحتها في حين يعتزم القضاء الإسباني فحص الأسلحة التي تم تسليمها لمعرفة ما إذا كانت قد استخدمت في جرائم قتل لم تحل قضاياها حتى الآن. وفي هذا الصدد، أكد رئيس الحكومة الفرنسية، أن المواد التفجيرية الخطيرة سيتم تدميرها، وأن بقية الأسلحة سيتم فحصها تحت إشراف القضاء الفرنسي الذي "سيعمل بتنسيق وثيق مع القضاء الإسباني للتحقق مما إذا كان بإمكان المواد المسلّمة أن تساعد على حل قضايا" لا يزال التحقيق مفتوحاً بشأنها، وفق قول كازنوف.
واعتبرت الحكومة الإسبانية الخطوة إيجابية لكنها غير كافية، وطالبت بحل حركة "إيتا" رسمياً وتقديم اعتذار للضحايا. وهذا يعني أن الحكومة الإسبانية لا تزال غير مستعدة للتفاوض مع "إيتا" والتوصل إلى اتفاق سياسي معها. وأعلنت الحكومة في بيان أن تسليم الأسلحة يعني "هزيمة نهائية" لحركة "إيتا" بوجه "الديمقراطية الإسبانية" وأن أعضاء هذه الحركة "لا يمكنهم انتظار أي معاملة خاصة من قبل الحكومة (الإسبانية)"، مقابل المبادرة، وفق ما ورد في البيان يوم السبت الماضي. وفي السياق، اعتبر المتحدث باسم برلمان الباسك في حزب "الشعب" الحاكم في إسبانيا، بورخا سمبر، أن تسليم السلاح هو استسلام نهائي بعد ست سنوات من وعود لم تتحقق. وقال إن "حركة إيتا التي عهدناها حتى الآن اختفت إلى الأبد، وما يتبقى هو محو الكراهية التي زرعتها إيتا في جزء كبير من مجتمع الباسك"، على حد تعبيره.
وفي ما يتعلق بخلفيات مبادرة تسليم الأسلحة وأبعادها، أوضح الصحافي بادي وودويرث، الذي أصدر كتابا بعنوان "الحرب القذرة والأيدي النظيفة" عن حركة "إيتا"، أن مشاعر الاشمئزاز العام من مستوى العنف في الهجمات الإرهابية التي ضربت عدة مدن في أوروبا أخيراً، والتي ارتبطت بتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وحملات التضييق التي تشنها الشرطة في إسبانيا وفرنسا، ساعدت في إضعاف صورة نشاط الحركة الانفصالية الباسكية. وقال "لم تعد (إيتا) منظمة تتمتع بما كان لها من جاذبية في جلب أعضاء جدد. فقد اتضح إفلاس الاستراتيجية المسلحة للقوميين اليساريين التي ترجع إلى ستينيات القرن الماضي". وأضاف أنه على الرغم من صعوبة اقتفاء أثر بقية ترسانتها من السلاح، إلا أنه من غير المستبعد أن تكون الحركة تحتفظ بمئات من الأسلحة النارية وكميات أكبر من المواد المتفجرة، وقد تكون "أكثر بـ20 أو بـ100 مرة" من الأسلحة التي سلمت يوم السبت، وفق قوله.
وفي ذروة أحداث العنف، شهدت إسبانيا هجمات عدة، كان من بينها تفجير سيارة ملغومة عام 1987 في "سوبرماركت" في برشلونة ما أسفر عن مقتل 21 شخصاً من بينهم امرأة حامل وطفلان. وأثار ذلك صيحات استنكار على المستوى الدولي. وفي مارس/آذار عام 2006، دعت "إيتا" إلى وقف دائم لإطلاق النار لكن هذه الهدنة أفسدها تفجير قنبلة ضخمة في موقف للسيارات في مطار مدريد في ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، وقتل فيه مهاجران من الإكوادور.
وبانتظار معرفة ما إذا كانت "إيتا" والحكومة الإسبانية ستتوصلان إلى اتفاق سلمي نهائي، تبقى شهادات ومواقف الضحايا، مؤشراً على ما يعبر عنه الرأي العام. وفي هذا الصدد، قال أحد ضحايا "إيتا"، غوركا لاندابورو، الذي فقد أصبعاً وإحدى عينيه في انفجار رسالة ملغومة ببيته عام 2001، إنه يرحب بإلقاء السلاح في فرنسا، معتبراً أن ما جرى يدل على أنه "تم استخلاص الدروس".