يكشف تحقيق "العربي الجديد" الاستقصائي عن تلوث مياه الشرب في تونس، عبر تحاليل أجريت في محافظة القيروان تثبت مخالفة المواصفات القياسية، بينما يؤكد مختصون أن 57% من سكان البلاد، يعانون من نفس الظاهرة بدرجات متفاوتة.
يعاني الستيني التونسي عبد العزيز العباسي، من حساسية في الجلد وحكة، نتيجة استعمال المياه التي تضخها الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه (حكومية) وتزود بها منازل المواطنين في مدينة حاجب العيون التابعة لمحافظة القيروان وسط غربي تونس، ومؤخرا تفاقمت المشكلة بعد شكواه من آلام في الكلى بسبب اعتماده كغيره من أبناء المنطقة، على مياه شرب غير نظيفة لها طعم غريب ورائحة ولونها متغير.
وزاد يقين العباسي بأن المياه وراء مشاكله الصحية، بعد وصول حالات القصور الكلوي في مدينة حاجب العيون إلى 27 حالة خلال العامين الماضيين، بحسب توثيق وليد الحاجي المكلف من قبل أهالي المنطقة بالتواصل مع الجهات المختصة لوضع حلول لمشاكل المياه الملوثة، والذي قال لـ"العربي الجديد": "المشاكل المرضية بدأت بالظهور بعد إطلاق الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، لمشروع تزويد المنطقة بالمياه من البئر العميقة "الغويبة السوداء"، في نهاية عام 2019، إذ يقع خزان مياه البئر العميقة، على بعد 120 مترا من مكب نفايات مدينة حاجب العيون".
ويؤثر مكب النفايات على المياه الجوفية في مدينة حاجب العيون، كما يوضح الخبير البيئي والمختص في التنمية المستدامة عادل الهنتاتي، المدير السابق للوكالة الوطنية لحماية المحيط التابعة لوزارة البيئة التونسية، مؤكدا أن عصارة النفايات المنزلية تتحلل في التربة وتتسرب إلى باطن الأرض فتعمل على تلويث المياه الجوفية. كما تعد مادة المرجين (المخلفات السائلة لعملية استخراج الزيت من الزيتون) التي تصرف في المكب ذاته، من العوامل المسببة للتلوث، نتيجة ارتفاع حموضتها، كما يقول الهنتاتي لـ"العربي الجديد".
ملوثات خطيرة
ما قاله العباسي حول تغير لون المياه، وثقته معدة التحقيق بالصور خلال جولتها الميدانية على منازل ثلاثة مواطنين في مدينة حاجب العيون لمعاينة مياه الصنبور، كما تؤكده مذكرة موجهة من رئيس وحدة الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بحاجب العيون، حاتم الرابحي، موجهة إلى رئيس إقليم الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بالقيروان، في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، إذ حذرت من أن "المراقبة اليومية لتوزيع مياه الشرب في حاجب العيون بينت وجود تغير طفيف في لون الماء".
وأعقبها الرابحي بمذكرة أخرى، جاء فيها أنه "منذ ربط الشبكة بالبئر العميقة الحديثة "الغويبة السوداء"، لاحظنا من خلال المتابعة والمراقبة اليومية لتوزيع مياه الشرب ومعاينة نسبة الكلور (يستخدم بغرض التعقيم وقتل البكتريا) المتبقية في الشبكة، بعض التغيرات في حالة الماء من حيث اللون والرائحة، خاصة في المناطق المنخفضة"، موضحا أن "إجراءات تنظيف الشبكة والخزان لم تكن كافية لارتفاع نسبة الحديد في مياه بئر "الغويبة السوداء" والبئر العميقة بمعمل الصوف، حسب التحاليل الأولية لمخابر الشركة".
وتكشف وثائق نتائج تحاليل الإدارة الجهوية للصحة في محافظة القيروان خلال الفترة من يناير/كانون الثاني حتى ديسمبر/كانون الأول 2021، والتي حصلت عليها "العربي الجديد" أن 6 تحاليل من 74 تحليلا غير مطابقة للمواصفات"، كما أن 8 تحاليل أخرى من 79 أجريت من يناير حتى ديسمبر 2020 غير مطابقة للمواصفات، لكن "دون تحديد العناصر المكروبيولوجية التي لا تتطابق مع هذه المواصفات"، وفق نتائج تقرير خبير الهندسة المائية، محمد القزاح، والذي عينته المحكمة الإدارية في القيروان في السابع من أبريل/ نيسان 2022، بناء على القضية الاستعجالية عدد 1330151 المرفوعة من قبل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة مستقلة) في 21 يونيو/ حزيران 2022، ضد فرع الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بالقيروان، كما تقول رئيسة فرع المنتدى، سوسن الجعدي، مؤكدة لـ"العربي الجديد" أن القزاح، أثبت أن نتائج تحاليل عينات المياه التي أخذت من أماكن متفرقة من شبكة الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه لتزويد مدينة حاجب العيون بمياه الشرب، خاصة النتائج المكروبيولوجية، غير مطابقة لحدود المواصفات القياسية التونسية.
وبحسب نتائج التحاليل المكروبيولوجية لعينات المياه التي أُخذت من أماكن متفرقة من شبكة مياه الشركة الوطنية في مدينة حاجب العيون، فإن الكائنات الدقيقة القابلة للإحياء في درجة حرارة 22 سليزيوس: 310 وحدات بعينة البئر العميقة و210 وحدات بعينة مياه المقهى و150 بعينة مياه صنبور في مقر شركة المياه في حاجب العيون (المواصفات التونسية تحددها بـ 100 وحدة)، والكائنات الدقيقة القابلة للإحياء في درجة حرارة 36 سليزيوس: 270 وحدة بعينة البئر العميقة 640 وحدة بعينة مياه المقهى و230 وحدة بعينة مياه صنبور مقر شركة المياه بحاجب العيون (المواصفات التونسية تحددها بـ 20 وحدة)، إضافة إلى "وجود القولونيات في العينة الثانية لمياه البئر العميقة "الغويبة السوداء" (يجب أن تكون القولونيات صفرا).
وأظهرت نتائج التحاليل الفيزيوكيميائية لعينتي المياه اللتين أخذتا من البئر العميقة "الغويبة السوداء" وصنبور المطبخ بالمسكن الوظيفي التابع للمدرسة الإعدادية (على مستوى شبكة التوزيع) أن اللون 18 مليغراما في اللتر الواحد و19 مليغراما (المواصفات تحددها بـ 15 مليغراما)، وعنصر الحديد 0.236 مليغرام في اللتر الواحد و0.606 مليغرام (المواصفات تحددها 0.2)، وفق تقرير القزاح.
وعرضت معدة التحقيق النتائج السابقة على أخصائي الجهاز الهضمي، الدكتور عبد العزيز غيلان، في عيادته الخاصة بالقيروان الشمالية، لمعرفة الأضرار الصحية الناتجة من تلوث تلك المياه، فرد بالقول: "يسبب هذا التلوث قصورا كلويا، وربما تلفا للكلى، كما تضر زيادة الملوحة في الماء بمرضى القلب"، مضيفا أن الأضرار تحصل بعد فترة من استهلاك الماء الملوث وحسب درجة الاعتماد والحالة الصحية للمستهلك، لكن استهلاكها بشكل كثيف قد يتسبب في مخاطر كبيرة بعد عدة أشهر.
مياه الصنبور غير صالحة للشرب
لا تقتصر مشاكل المياه الملوثة على حاجب العيون، بل تعاني منها مناطق تونسية أخرى، مثل ولايات أريانة شمال تونس، وصفاقس (وسط) وسوسة جنوب العاصمة، بحسب ما وثقته معدة التحقيق عبر 5 شكاوى منشورة على "فيسبوك"، خلال أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول 2022، تتحدث عن انبعاث روائح كريهة من مياه الصنبور وتغير في لونها وطعمها في تلك الولايات، ما يجعلها غير صالحة للشرب والطبخ والاستحمام، وهو ما يؤكده حمزة الفيل، الباحث ورئيس مخبر معالجة المياه الطبيعية في مركز بحوث وتكنولوجيات المياه (حكومي)، والذي عمل على أبحاث متخصصة، منها "نظام تحلية المياه في تونس"، مؤكدا لـ"العربي الجديد" من خلال زيارة ميدانية لمناطق جنوب وشمال تونس، أن مياه الصنبور سيئة وغير صالحة للشرب في 80% من المحافظات التونسية، وخاصة في ولايات قفصة جنوب غربي تونس، وقابس (جنوب) وصفاقس ومدن الساحل بالمهدية وسوسة والمنستير ونايل.
مياه الصنبور سيئة وغير صالحة للشرب في 80% من المحافظات التونسية
الوقائع السابقة، يؤكدها بيان مقرّر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق الانسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي، بيدرو أروخو أغودو، الصادر في 28 يوليو/ تموز 2022 والذي لفت إلى أن "مشاكل التلوث البرازي على غرار جراثيم الإشريكية القولونية، تصل إلى 42% بالمياه في بعض المناطق الريفية التي يعيش فيها 49% من إجمالي السكان. بينما تصل في المناطق الحضرية التي يعيش فيها 51% إلى حدود 23%"، موضحا أن "57% من سكان تونس، يحصلون على مياه شرب غير مأمونة".
وتنص المادة الخامسة من أمر رئاسة الحكومة عدد 157 لسنة 2017 بشأن المصادقة على نظام الاشتراكات في الماء الصالح للشرب على أن " تزود الشركة مشتركيها بمياه صالحة للشرب ومطابقة لكافة الشروط الصحية".
مخاطر تقادم شبكات التوزيع
ساهم تقادم شبكات توزيع المياه وضعف الصيانة، في تراجع جودة مياه الشرب، بحسب حمزة الفيل، والذي أكد أن 40% من طول شبكة الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه البالغة 57000 كيلومتر، تجاوز عمرها 29 عاماً، بينما يفترض أن يكون 20 عاما، فيما تجاوز العمر الافتراضي لـ 17% من طول الشبكة 49 عاما، مشيرا إلى وجود بطء في التدخل لإصلاح القطع المكسورة بالشبكة، لأن امكانات الشركة لا تسمح بإصلاح أكثر من 1500 و2000 كيلومتر كل عام، ما يجعل الدولة، تركز على توفير المياه للمواطنين وليس على الجودة.
وتقول رحاب المبروكي، عضو قسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إن الشبكات تتقادم مع مرور الوقت، وتفرز مادة تسمى بالصخر الحريري (الأسبست) وهي مجموعة من المعادن غير العضوية والتي تسبب عدة أمراض، مؤكدة لـ"العربي الجديد" أن إهدار الماء على مستوى شبكات الربط والتزويد يصل إلى نسبة 40% بسبب تقادم الشبكة وتهالكها والبطء في صيانتها، وتقول: "لم تخضع القنوات المائية بمنطقة الحوض المنجمي في قفصة، للتجديد منذ تاريخ توصيلها في الثمانينات".
شبكات توزيع المياه المتقادمة تفرز مادة تسمى الصخر الحريري
ويعيد محمد أنيس القزاح، مدير إقليم الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه في القيروان، سبب تغير لون الماء مع وجود ترسبات إلى إشكاليات تطرأ على الشبكة أحيانا، بسبب عوامل طبيعية مثل الجفاف وحلول فصل الصيف، إذ يقل منسوب المياه في السدود، ما يؤثر على النوعية، ويقول: "عندما نلاحظ تغيرات في الماء من حيث اللون أو أي شيء آخر، نتدخل مباشرة ليعود الماء إلى وضعيته الطبيعية"، مضيفا: "جودة الماء تختلف من الشمال إلى الوسط إلى الجنوب ونعمل على تحسينها عبر إنشاء محطات تصفية في الجنوب وحاليا بحاجب العيون"، لكن شدد على أنه : "بعد توفير الماء يأتي العمل على الجودة".
ولتلافي الاشكاليات في حاجب العيون، وتحسين نوعية الماء، يتم العمل حاليا على تحسين جودة المياه من خلال إنشاء محطة لتصفية مياه الشرب، وتم توقيع عقد مع المقاول الذي سيتولى إنشاء المحطة، حسب القزاح، مؤكدا أن المقاول سيتولى القيام بالأشغال اللازمة، ويقول إن هذه المحطة ستحسن من جودة المياه في مدينة حاجب العيون. وهو ما تتمناه الأربعينية التونسية سعاد بالهادي، التي عرضت على معدة التحقيق خلال جولتها الميدانية في حاجب العيون، صورا لمياه يميل لونها إلى الأصفر. وتقول بالهادي لـ"العربي الجديد" إن طفلتها (5 أعوام) تعاني من طفح جلدي وحكة مستمرة.
بينما يستعد الستيني عبد الكريم الزيدي، لمقاضاة الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، نتيجة تلوث المياه بحاجب العيون التي تسببت بمعاناة زوجته من طفح جلدي وحكة مستمرة، كما يقول لـ"العربي الجديد".