"أسطورة عزّام" .. والباحث العربي
يقدّم الباحث النرويجي توماس هيغهامر سيرة مفصّلة، غير مسبوقة، عن حياة الشيخ عبد الله عزام، وعن دوره في صعود ما يسمّى "الجهاد العالمي"، في كتابه الضخم "القافلة: عبد الله عزام وصعود الجهاد العالمي" (ترجمة عبيدة عامر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2021).
لم يكن اختيار عزّام اعتباطياً، فالرجل، كما أشار مؤلف الكتاب أيضاً، بمثابة الأب الروحي للجهاديين العرب الأفغان، وكان له دور حيوي ورئيس في تشكّل جذور الجهاد العالمي، عبر الهجرات العربية إلى أفغانستان، ثم عملية اغتياله في نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، قبل أن يبدأ تنظيم القاعدة بالتشكّل في صيغته اللاحقة على يد كل من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ثم عولمة الجهاد في مرحلة الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين في العام 1998.
يبدأ الكتاب مع عزّام من الجذور العائلية ومرحلة الطفولة في سيلة الحارثية، وتشكل شخصيته، مروراً بنكسة حزيران/ يونيو والانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، ثم مرحلة الأردن والفدائيين في 1970، فإكمال دراسة الدكتوراه في الشريعة في مصر، وصولاً إلى التدريس في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية، قبل إقالته، ليتوجه إلى السعودية في بداية الثمانينيات، قبل أن يبدأ رحلته إلى باكستان مدرّساً، فمجنّداً الشباب العربي للقتال إلى جانب المقاتلين الأفغان، فمنظّراً للجهاد الأفغاني، وأحد أبرز الشخصيات المهمة في الجهاد الأفغاني، وصولاً إلى استعراض المؤلف النظريات المختلفة والمتعدّدة في تحديد الجهة المحتملة لعملية اغتياله التي بقيت غامضة، وقد حصرها المؤلف في ست فرضيات رئيسية، تبدأ من زعيم الحزب الإسلامي الأفغاني غلب الدين حكمتيار، وتنتهي بالموساد الإسرائيلي، وهكذا..
من الأهمية بمكان دراسة عبد الله عزّام بعيداً عن الأسطرة والمخيال الإسلامي الذي أحاطه به أنصار التيارات الإسلامية
الكتاب على درجة كبيرة من الأهمية في بناء سردية مهمة وموضوعية علمية لحياة الرجل، وتطور ملامح دوره في الحالة الجهادية الأفغانية، وفي الإضاءة على مختلف مراحل حياته. وهو كتابٌ ممتع في تسلسله التاريخي والتفصيلات الدقيقة المأخوذة من مقابلات عديدة أجراها هيغهايمر مع معارف عديدين لعزّام، والمهم أن المؤلف لم يتورّط في إصدار الأحكام أو التسرّع في بناء النتائج، ولم يكن مع أو ضد، ما يعطي الجهد العلمي الكبير الملموس قيمة وأهمية كبيرتين.
بالضرورة، من الأهمية بمكان دراسة عبد الله عزّام بعيداً عن الأسطرة والمخيال الإسلامي الذي أحاطه به أنصار التيارات الإسلامية، بخاصة جماعة الإخوان المسلمين (وقد كان يطلق عليه لقب سيد قطب الأردن)، والجهاديين العالميين (ولا تزال كتبه تدرّس) من جهة، أو الكتابات المؤدلجة ضده التي تهوّل من دوره ومن تأثيره على الشباب العربي، وتعتبره المسؤول الأول عن صعود القاعدة والجهادية أو الإرهاب العالمي. ولعلّ هذا المجهود البحثي مهم أيضاً لنتوقف قليلاً عند حدود المقاربات العربية للظاهرة الإسلامية عموماً، والجهادية خصوصاً، وربما أهم ما يسلط هذا الكتاب الضوء عليه هي نظرية السياقات المولّدة للجماعات الجهادية، فعزّام كان أستاذاً أكاديمياً في الجامعة الأردنية، وطُرد بعدما تحدّى السياسات الرسمية، ثم ذهب إلى السعودية وانتقل إلى أفغانستان، وكان التحضير للمشاركة العربية قائماً أصلاً، وكان هنالك دور للسياسات الدولية والإقليمية، بخاصة بعض المؤسسات الإسلامية العالمية. بمعنى أنه لولا السياقات التاريخية والسياسية لما تشكّلت أصلاً ظاهرة عبد الله عزّام ولا برزت، فمن الخطأ التعامل مع مثل هذه الشخصيات والأداور بمعزلٍ عن السياقات والظروف المنتجة للظاهرة الجهادية، ليس من باب التبرير، بل التفسير والإحاطة والفهم.
"الرفاهية البحثية" لا يستطيع أي باحث عربي أن يحصل عليها من مؤسسات عربية
مثل عبد الله عزّام، هنالك شخصياتٌ عديدة ذات تأثير كبير في مجال الحركات الإسلامية تستحق هي الأخرى مشروعات دراسية معمّقة. وقد كتب جويز ويغماكرز كتاباً عن أبو محمد المقدسي وتأثيره في الجهاد العالمي (في الأصل أطروحته للدكتوراه)، ولكن ليس بالعمق ولا بالتحليل والتأطير نفسه الذي قدّمه زميله هيغهامر. إنّما ما يمكن أن يؤخذ على الكتابين معاً أنّهما أخذا جانب التوثيق والتأريخ أكثر من جانب التحليل المعمّق، ولا تزال هنالك مساحة واسعة للدراسات المطلوبة في هذا الحقل، لشخصياتٍ لا تقل خطورة ولا تأثيراً عن عزّام والمقدسي، مثل المؤسس الحقيقي لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أبو مصعب الزرقاوي، فالأخير، كما حال عزام، كان شخصاً عادياً في مجتمع الزرقاء، في حي معصوم الفقير المكتظ بالسكان، وتحوّل في أعوام معدودة إلى أخطر رجل في العالم، وإلى مؤسّس أخطر تنظيم عالمي!
ليسامحني صديقي توماس هيغهامر، فقد كنت أضحك في نفسي وأنا أقرأ كتابه، بخاصة عندما يعدّد حجم المنح التي قدّمت له من مؤسسات أكاديمية وبحثية غربية وأوروبية لإنجاز الكتاب الذي استغرق منه خمسة أعوام، زار خلالها الأردن وباكستان وأفغانستان والسعودية، والتقى بعشرات الأشخاص، وحصل على مقابلات مهمة مع شخصياتٍ عديدة، وكان متفرّغاً بدرجة كبيرة لهذا العمل خلال تلك الفترة، مع انقطاع لمراحل قصيرة. ثم أتى بهذا المنتج المهم علمياً وبحثياً (له كتاب لا يقل أهمية عن الجهاد في السعودية، وكان أطروحة الدكتوراه، وكتاب "حتى لا يعود جهيمان مرّة أخرى"). مثل هذه "الرفاهية البحثية" لا يستطيع أي باحث عربي أن يحصل عليها من مؤسسات عربية، وربما لو التقى بهؤلاء المسؤولين، بخاصة الجهاديين، ربما مصيرُه الشبهات الأمنية أو السجون والمعتقلات! وأعترف هنا، وقد ألفت ونشرت عدداً كبيراً من الكتب (أعتز بها جميعاً)، لولا الدعم والمساندة المستمرّة من مؤسسة فريدريش أيبرت الألمانية لما تمكّنت من إنجاز جزء بسيط من هذا الإنتاج المعرفي.
المسؤولون لدينا لا يريدون أن يفهموا الظاهرة ويدركوا أبعادها، لأنّهم يفترضون، في الأصل، أنّهم عباقرة في كل شيء
على الجهة الأخرى، والمقارنة مستمرّة، يكتوي الباحث العربي بنار الاتهامات، ويحاول إقناع المسؤولين وصنّاع القرار بأهمية الحياد والموضوعية في البحث العلمي، فالمسؤولون لدينا لا يريدون أن يفهموا الظاهرة ويدركوا أبعادها، لأنّهم يفترضون، في الأصل، أنّهم عباقرة في كل شيء، إنّما هم يريدون باحثين يروّجون "نظرياتهم الثاقبة"، فلا حاجة للبحث العلمي والمعرفة العلمية. عذراً على الاستفاضة في هذا الموضوع، فقد كان معنا في الحلقة البحثية باحثون وخبراء قلقون على سلامتهم الشخصية، وآخرون يخشون التصنيف والوسم، وهكذا فإنّ حقل دراسات الحركات الإسلامية في العالم العربي مفخّخ بامتياز.
شهدتُ شخصياً، في زيارة بحثية لجامعة جورج واشنطن في العام 2012، حجم الاهتمام بما يكتبه الباحثون هناك، والحلقات البحثية والنقاشية التي تُعقد لمناقشة كتبهم، والسفرات والرحلات التي ترتّب لهم للتعريف بكتبهم في ولايات أميركية عديدة، والموارد المالية الهائلة التي تصل إليهم بسبب هذه الكتب، من خلال دور النشر، بل وهنالك جلسات استماع خاصة يعقدها الكونغرس لهم لمعرفة آرائهم في ظواهر عديدة ذات صلة.