"أم سعد" أمٌّ في كلّ بيت
في الذكرى الخمسين لاستشهاد غسّان كنفاني، أستذكرُ جانباً من علاقتي مع رواياته وأبطاله، ومنهم "أم سعد"، الاسم الذي حملته إحدى رواياته أيضاً، فلم تكن "أم سعد" شخصيةً روائيةً، تُنسى بعد الانتهاء من قراءة الرواية.
وقعتُ على المجموعة الكاملة للراحل غسّان كنفاني عام 1988، وكنت في السابعة عشرة من عمري، وصلت إلي في مجلد واحد من شاب فلسطيني يقيم في أحد المخيمات، عبر البريد. كنّا تعارفنا عن طريق نادي القراء في صحيفة القدس، وكنت نشرتُ أول قصصي "حكاية جدّي ونخلته" في الصحيفة.
كانت المجموعة الكاملة بداية تعرّفي بكنفاني الذي استشهد في سنّ باكرة. وكنت أبلغ عامي الأول، لأكتشف كاتباً ولد لكي لا يموت، وذلك، وأنا في سني مراهقتي، كانت انتفاضة الحجارة تتأجج في شوارع المخيم القريب الذي غادرته عائلتي، وأنا ابنة الرابعة من عمري. عادت المجموعة الكاملة لغسّان كنفاني لتربطني، ولتشدّ وثاقي به، من جديد؛ فكنت دائما فخورة بأنني ولدت في المخيم، وكان بالنسبة لي معقلا للثورة، وليس رمزاً للتهجير والفقر.
أخذتني في المجموعة الكاملة قصة "أم سعد". رأيت فيها صورة كلّ أم فلسطينية عرفتها في الواقع؛ امرأة عادية، وغير عادية، تصادفك في كلّ زقاق في المخيم؛ تتصدّى للفقر، وللوضع البائس فيه، تؤيد خيار ابنها المقاوم وتناصره، فترى في مقاومته خلاصا من كلّ هذا البؤس المحيط بها، وهي نفسها مقاومة بكل أفعالها، مهما استصغرها بعضهم.
تكتشف "أم سعد" من خلال الأحداث أن المقاومة ليست مقتصرةً على حمل السلاح والانخراط في صفوف الفدائيين، فكلّ كلمة، وكل فعل، وكل قرار هو مقاومة بحد ذاته، خصوصا حين قرّرت أن تثور على المختار، وعلى الدجل والشعوذة، فألقت بحجابها القديم الذي كتبه لها مشعوذٌ ما، واستبدلت به رصاصة سعد المخبأة في فراشه، لتشير إلى تهاوي سلطة المختار المتواطئ مع الاحتلال بشكل أو بآخر، ولتعلن عن تهاوي قيم قديمة، كانت السبب في هزيمة عام 1967، لتحلّ محلها قيم ثورية ترفض الاستسلام. تقول أم سعد عن الحجاب: "صنعه لي شيخ عتيق منذ كنّا في فلسطين، وذات يوم قلت لنفسي: إنّ ذلك رجل دجال بلا شك .. حجاب، إنّي أضعه منذ كان عمري عشر سنين، ظللنا فقراء، وظللنا نهترئ بالشغل، وتشرّدنا، وعشنا هنا عشرين سنة". وبهذه القناعة المتأخرة، وعن وعي كامل، حدّدت أم سعد طريقها الجديد، حين لفت السلسلة الخاصة بابنها حول عنقها.
في رواية "أم سعد" يظهر تأثر غسّان كنفاني برواية مكسيم غوركي "الأم"، إذ تأثر بتطور شخصية الأم التي بدت امرأة بسيطة، تبحث عن لقمة عيش، وانتهت مناضلة تبحث عن وطن. لتكتشف أن "خيمة عن خيمة تفرق"، فقد استطاع أن يأخذنا عبر مسيرة الفدائي سعد إلى حقيقة راسخة، لا يمكن المزايدة عليها؛ أن كل أم فلسطينية هي صورة عن أم سعد، الأم المناضلة والمكافحة، فعندما كان سعد مختبئاً مع مجموعته الفدائية في فلسطين المحتلة، وخلال بحث الجنود الإسرائيليين عنه، والجوع والعطش يفتك بهم، مرّت بهم سيدة مسنّة، ناداها سعد "يمّا" مثلما ينادي أمه. ورغم تحذير رفاقه بخطورة كشف هويتهم، إلّا أنه أصرّ على أن هذه المرأة أمه. وتعاملت المرأة أيضاً معه كما لو كان ابنها، فلم تنقطع عن تقديم المساعدة له ولرفاقه.
إنْ كانت "أم سعد" رواية لحياة مشرفة لكلّ امرأة فلسطينية منذ النكبة، فهذه الرواية، وغيرها من روايات غسّان كنفاني، وضعتني في حالة اكتشاف وتمييز ما بين المقاوم الحقيقي والمقاوم الزائف المتشدّق بالشعارات؛ لأنّ الشخص الذي أهدى إليّ هذه المجموعة، وكان وقتها يريد أن يضعني على خط النفَس الطويل للمرأة الفلسطينية، انقطعت أنفاسه البطولية الوهمية، وانخرط في سلك التطبيع بطريقةٍ غير مباشرة، وتحوّل إلى مواطن قانع بواقع مرير في بيتٍ على أطراف المخيم.