آه منك يا جبان
كان الأديب الراحل ممدوح عدوان (أبو زياد) يتوقف عند المصطلحات التي يُطلقها الإعلام السوري، ويراها تنم عن غباءٍ مُرَكَّز، ويذهب إلى السخرية منها،... كما في قول مذيعي النشرات الإخبارية، عندما تتعرّض منشأةٌ ما لعملٍ تخريبي، بعملية انتحارية، إنه عمل جبان. وكان يقول إن هذا العمل قذر، وإجرامي، وسافل، مثلما يقول الإعلام السوري بالضبط، لكنه ليس جباناً، بل على العكس، إن منفذ الهجوم الانتحاري يمتلك شجاعة استثنائية، تصل إلى حدود التهوّر.
لا شك في أن مثل هذه (الخرابيط) الإعلامية كانت تمرّ في الإعلام السوري مرور الكرام، لا بل قلّما كان يوجد مَنْ يدقّق فيها، ويفنّدها، مثلما كان ممدوح يفعل، لأن السوريين اعتادوا قلة الاكتراث تجاه الإعلام السوري، ليقينهم بأنه إعلام الصوت الواحد، والجماعة الواحدة، والجوقة الواحدة، والكذبة التاريخية الواحدة. والعاملون فيه يشتغلون على طريقة ترداد الشعار الصباحي في المدارس، حينما يصيح موجّه المدرسة: أمة عربية واحدة، فيهتف الجميع بصوت يبلغ عنان الجوزاء: ذات رسالة خالدة.
لم يرَ الراحل أبو زياد الكثير من ابتكارات الإعلام السوري في مجال الغباء، لأنه عاش بيننا في أيام السلم... ولستُ أدري ماذا يمكن أن يقول لو أنه رأى، كما رأينا نحن، خبيراً استراتيجياً سوريّاً يجلس متصدّراً في استوديو تلفزيون المنار، ويستعرض مع المذيعة المُحَجَّبة شريطاً مصوّراً عن الحملة التآمرية الاستعمارية التي تقودها تركيا وقطر والسعودية، لتثبتَ للعالم الأكذوبة القائلة إن هناك جوعاً في بلدة مضايا. فجأةً، يطلب من مخرج الحلقة أن يعيد صورةٍ لشخص من مضايا، كان يتحدث للإعلام عن الجوع، وحينما استقرّت الكاميرا على الشخص المطلوب، قال الضيف الخبيرُ للمذيعة: انظري سيدتي إلى هذا الإرهابي الذي يَدَّعي الجوع، كيف أن وجهه مُتَوَرِّد وممتلئ بالعافية، بربك لو أن في مضايا جوعاً أكان ظهر هكذا؟
اكتفت مذيعة المنار من الخبير الاستراتيجي السوري بهذا الدليل على انتفاء حالة الجوع في مضايا، فهو دليل كاف بالطبع... وذهب الاثنان يتداولان الحديث عن مصلحة إسرائيل (الكيان الصهيوني) في دعم الإرهابيين، لأن هذا الكيان يُعادي محور المقاومة بزعامة السيدين، خامنئي ونصر الله، اللذين يحاربان التكفيريين.
أعادنا إدخال إسرائيل على خط مضايا إلى غباوةٍ إعلاميةٍ فريدةٍ، حصلت في بداية الثورة، حينما أعلن التلفزيون العربي السوري أن المتظاهرين السلميين في حي بابا عمرو الحمصي قد رفعوا العلم الإسرائيلي... ويوم حصل صدامٌ مسلح في جسر الشغور، أدى إلى مقتل عناصر من الأمن العسكري، دخل الخبير الاستراتيجي، طالب إبراهيم، إلى استوديو الفضائية السورية، حيث سبقته ثلة من المحللين والخبراء والإعلاميين، وقال مستخدماً نبرة العالِم أرخميدس، حينما اكتشف قانون الإزاحة في بانيو الحمام، فصاح: وجدتُها.. وجدتها، الآن، ما عاد أحد يستطيع أن يُمارينا في أن هذه التي تسمى الثورة السورية هي حرب إسرائيلية مكشوفة على القيادة السورية. وتوجّه المجتمعون، على أثر إعلان هذا الاكتشاف، بخطابهم إلى بشار الأسد قائلين: ما عدنا نقبل منك أية حكمةٍ، أو رويّة، أو سياسة استيعاب. ها هي إسرائيل أصبحت في جسر الشغور، فاضرب أيها المغوار. اضرب وحسب.
لو كان ممدوح عدوان بيننا اليوم، لاكتشف أن السياسيين والإعلاميين السوريين يحاربون في خندق واحد، وأن (هذه الطينة من هذه العجينة)، بدليل أن السيدة بثينة شعبان، وهي الناطقة الرسمية باسم القصر الجمهوري، قالت، على الهواء، بتاريخ 3 يونيو/ حزيران 2016 إن مدينة داريَّا تملك أرضاً خصبة، وتستطيع إنتاج الفول والبازلاء والمواد الغذائية، وأنها تمثل السلة الغذائية لدمشق. وأنا (بثينة شعبان) أؤكد لكم أنه لا يوجد أي أحد جائع في داريّا، ولا حاجة لأية قوافل إنسانية أو مساعدات.
أي نعم.