هل يعرف السوري سورية؟
جميلٌ أن يعتدَّ مواطنُ دولةٍ ما بانتمائه إليها، مثلما يفعل المواطن السوري عندما يستفزّه مواطنُ دولة أخرى، فيردّ عليه بذلك التعبير المتعالي: أنا سوري وآكل على رأسك بالطبق. المشكلة الحقيقية تبدأ، أو تتفاقم، عندما يسأله ذلك الشخص، على حين غرة: حسناً، ماذا تعرف عن سوريّتك؟
السوريون، وأنا منهم، لا يعرفون عن سورية سوى نثرات متفرّقة. هذا الجهل، أو التشوش الوطني، سببه، في اعتقادي، أن الجماعات العسكرية والمدنية التي تعاقبت على حكم سورية، منذ خروج قوات الانتداب الفرنسي في 1946، لم تكترث للجانب الوطني "السوري" في خطاباتها إلى الشعب، انعكسَ هذا جلياً في المناهج التعليمية، من الابتدائية حتى الثانوية، فهي تقدّم نوعين من الأفكار، والقصص، والمُثُل العليا، تتوزّع بين القومية العربية والدين الإسلامي، مع غياب شبه تام لتنمية الحس الوطني.
وبالمناسبة، كان أحدُ مؤسّسي حزب البعث، ميشيل عفلق، يلحّ في خطاباته ومقالاته على ضرورة تلازم العروبة والإسلام في فكر الحزب، وفي رسالة منه إلى صدّام حسين، أبدى رغبته في أن يموت على الإسلام. وإذا نحّينا عفلق جانباً، نجد أن دولة البعث السورية تطبّق، منذ سنة 1963، فكرة التلازم هذه، فلم تعترض طريقَ الدين قط، بل أفردت له في الإعلام الوطني الرسمي مساحاتٍ واسعة. ويلفت النظر بقوة أن حافظ الأسد الذي كان قسم كبير من السوريين يرفضونه (ضمنياً) لأنه علوي، استبسل في تقريب مشايخ الدين (السنّة) منه، والظهور بينهم في المناسبات الدينية، وفتح لهم أبواب الإذاعة والتلفزيون الرسميين. ولذلك لم نكن نسمع، أو نشاهد، في الإذاعة والتلفزيون، دروساً لوُعَّاظ من أي مذهب إسلامي غير السنّي. وحرص حافظ، كذلك، على أن يُطْلَقَ اسمُه على سلسلة معاهد تحفيظ القرآن في أنحاء البلاد، ودعم جماعات دينية تواليه، مثل القبيسيات. ومما تداوله معارضون له يساريون أن المساجد التي بُنيت في عهده أكثر مما بُني في كل العهود السابقة. ولعل من المفيد ذكر حادثة وقعت في 1998، أن أحد المشايخ المقربين من حافظ همس في أذنه، في أثناء حضوره مناسبة دينية، بأن مقالة تسيء إلى الدين نُشرت في صحيفة البعث، فأصدر، على الفور، أمراً بإيداع طاقم تحرير القسم الثقافي في الصحيفة السجن.
لا بد من التوضيح، هنا، أن ما كان يفعله حافظ، ثم ابنُه، لا يخرُج عن نطاق سد الذرائع، فكلاهما بطش بالإسلاميين الذين عارضوهما، ولكن العبرة من هذه الشواهد أن يُشار إلى موضوع آخر، أن حكام سورية، خلال ثلاثة أرباع القرن، اهتموا بالمحافظة على السلطة، ومغازلة القوميين والإسلاميين، لكسب ولائهم، أو سكوتهم على الأقل، ما أدّى إلى ذهاب "الوطنية السورية" فَرق عملة... وهناك حادثة تعطينا مثالاً باهراً على غياب الوطنية في عموم الدول العربية، ففي 1972، زار معمّر القذافي تونس، وسمع من رئيسها الحبيب بورقيبة كلاماً غير سارّ. قال بورقيبة: أخونا العقيد معمر القذافي مسرور جداً لأن ليبيا دخلت في اتحاد مع سورية ومصر والسودان. أين هي هذه الوحدة؟ وأين هاتيك الدول؟ الجدير بشعوبنا أن تغيّر عقولها، وتفهم معنى الوطنية، قبل أن تفكّر بإقامة اتحاد فيما بينها.
لم تكتفِ التيارات السياسية في سورية، في ثلاثة أرباع القرن المنصرمة، بتهميش الوطنية السورية، بل جعلت قسماً من الشعب يردّد أن سورية جزء من الوطن العربي الكبير، وآخر يراها أرضاً إسلامية، ومعظم أبناء الشعب ينظرون إلى اتفاقية سايكس بيكو (1916) التي رَسمت حدود سورية المعترف بها دولياً مؤامرة استعمارية حقيرة. والمشكلة الأساسية تنشأ حينما تسألهم: وما هي سورية الحقيقية التي تريدونها إذن؟