الطاحونة السوريّة ونظرية المؤامرة
ليس من حقّنا مصادرة حقّ الآخرين في إبداءِ رأيهم بالقضيّة السورية، فقضيتُنا شبيهة بالطاحون، يحقّ لكلِّ مَن يأتي ومعه كيس قمح، أن يفرغه في دلوه، ويطحن. يستطيعُ غير السوريين، كذلك، إفراغَ دلائهم في طاحونتنا، وهذا طبيعي، لأنّ قضايانا، نحن أبناء المنطقة العربيّة، مُتشابكة، ومُتداخلة، و"فايتة ببعضها"، مثل شلّة حرير عالقة بالشوك. كان الصراعُ العربي الإسرائيلي، في السابق، يحتلُ موقعَ الصدارة، والفرادة، في اهتمامِ شعوبنا، ولكن دخول إيران إلى منطقتنا، بوصفها قوّة توسّعية تنطلقُ من مبدأ "تصدير الثورة"، واصطدام مشروعها بالمشروع الإسرائيلي، زاد في الطنبور نغماً، وجعلنا نتذكّر ذلك الدرويش الذي كان يمشي في شوارع مدينة إدلب، في الستينيات، ملصقاً راديو ترانزيستور بأذنه، وتظهر على وجهه انطباعات متناقضة تغلب عليها الدهشة، وحينما يقتربُ منه أحد الناس ويسأله: كيف أحوال الدنيا في أخبار الراديو يا فلان؟ يقول: مخبوطة.
وقوعُ سورية في قلب الشرق الأوسط، زادَ في كميّة المصائب التي تنزل على رؤوس أبنائها، وفي تشابكِ الأحداث التي تشهدها أرضها، وكثرة الأصابع التي "تلوص" في قِدْرها، فعدا عن الصراعِ المسلح الدامي، الطويل، الذي نَتجَ عن ثورة 2011، وأدّى إلى تقسيم سورية إلى أربع مناطق نفوذ، أصبحتْ الغارات والقذائف التي تنهمرُ على أرضها تحتاجُ إلى شرطي مرور (جوي)، ينظّم الدور، ويَحول دون تصادم الجهات القاصفة.. وإن كنّا قد سخرنا من تصريح وزير الخارجية السورية (الراحل)، وليد المعلم، في سنة 2014، بأنّ من يريد أن يقصف في سورية يجب عليه أن ينسّق مع الحكومة السورية، فإنّ قوله تحوّل، خلال عشر السنوات اللاحقة، إلى واقعٍ يوميٍّ شديد الإيلام، فعدا عن ضرباتِ التحالف الدولي على مقرّات "داعش" التي استمرّت حتى سنة 2018، ودمّرت عدداً لا يُستهان به من الأبنية، والبُنى التحتية، قصفت أميركا مكان إقامة الأمير الثالث لتنظيم الدولة، ماهر العقال، في شمال غرب سورية (12 يوليو/ تموز 2022)، وروسيا قصفت، في أواخر 2015، مناطق كثيرة في وسط سورية وشمالها الغربي، وما زالتْ تقصف، بالاشتراك مع طيران النظام، مواقعَ لهيئة تحرير الشام في منطقة إدلب، وعندما تريدُ إسرائيل أن تضرب أحد قادة حزب الله، أو تدمّر مستودعَ أسلحة، أو مقراً إيرانياً، يأتينا خبر غارةٍ إسرائيليّةٍ على بنايةٍ في حيِّ المزة، أو أحد المطارين السوريين الدوليين، أو بانياس، أو مصياف، وحتى دير الزور.
الشيء البديهي أن يترافق الطحن العسكري المُتسارع، بطحنٍ إخباري، تحليلي، مُتسارع، ومقاربات ينطبق عليها التعبير الشامي الدارج "شَرَوي غَرَوي"، مِن واحد يقول لك إنّ كلّ هذا القتل والتدمير تمثيلية مُتفق عليها بين إيران وإسرائيل، وآخر يزعم (ويؤكّد) أنّ تنظيم داعش صناعة أميركية، مستنداً إلى ما قاله ترامب لهيلاري كلينتون خلال المناظرات الانتخابية، 2016، بأنّها، ورئيسَها أوباما، صنعا تنظيم الدولة. ومع أنّ ترامب نفسه تراجع عن الاتهام، بقي أنصارُ نظرية المؤامرة عندنا محتفظين بالتصريح الأصلي، وأضافوا إلى ذلك سرديّة عجيبة؛ أنّ كلينتون تروي في مذكراتها كيف زارت 112 دولة، لإقناع رؤسائها بتأييد التنظيم الداعشي فور الإعلان عنه، وهذا غير صحيح بالطبع.
وممّا أثار دهشة محسوبكم، في الآونة الأخيرة، زعمُ بعض المثقفين السوريين إنّ نظام الأسد جمع مقاتلي "داعش" في مخيّم اليرموك، سنة 2018، وعبّأهم في باصات، وأرسلهم ليعتدوا على مناطق في السويداء، وهذا الأمر كان يتطلّب من ناقل الخبر أن يتأكّد من هويّة المقاتلين قبل انطلاقهم من المخيّم، وأنّهم من مبايعي أمير داعش، ثم يجري لهم (تفقد) عند الوصول، ثم يخبرنا عن الدوافع التي تجعلهم يعملون سخرة، أو "ديليفري" عند نظام الأسد، وما هو المقابل الذي يحصلون عليه، ولماذا لا يتّحدون معه، ويشترك الطرفان في محاربة أعدائهم المشتركين هنا وهناك!