أخبروا الذين في الخارج أنّنا أحياء
من آخر الصف، سُمعت جملةٌ واحدة: أخبروا الذين في الخارج أنّنا أحياء. ران صمتٌ ثقيل بعدها، ولم نجد نحن، زوار السّجن، ما نقوله. تمكنّا من رؤية وجه المتكلّم، وكان أكبر السّجناء سنّاً. أطرق زملاؤه بعد أن فاجأهم وقعُ الجملة التي ربما لم تخطُر لهم على بال. حدث هذا خلال لقاء قصير مع مجموعة من السّجناء والسجينات، في سجن آيت ملول بأغادير.
كان صفُّ السّجينات على اليمين، والسّجناء من الأحداث على الشمال. لم يكونوا أحداثاً كما يُفترض، لعلّهم كانوا كذلك عند دخولهم السّجن، لكنّهم الآن في بدايات العشرينات. ملامحهم ضائعة، بين التعب واليأس. لكن لا يبدو عليهم أبداً أنّهم مجرمون، ولا كذلك أنّهم مثل سائر الشّباب في أعمارهم. أخذوا الكلمة تحت إصرارنا، وقدّم كلٌّ نفسه. وللمفاجأة أن غالبيتهم طلبة جامعيون. لم يكن العلم والبحث عن آفاق لاحقة دافعهم للدراسة داخل السّجن، لأن المشرف الاجتماعي أخبرني أن "الديبلومات" تُؤخذ بعين الاعتبار في إطلاق السّراح المشروط، قبل إنهاء المُدد المحكوم بها. لكن هذا لا يقلّل من آثر التعليم عليهم، رغم أن احتمالات أن يساعدهم على إيجاد عمل بعد الخروج من السجن ضئيلة، بما أن سجلّهم العدلي موصوم.
بينما لم تستفد السّجينات إلّا من التكوين المهني، وتعلّم حرفٍ يدوية تمكّنهن من العمل بعد الإفراج عنهن. كان وعيهن أكبر من مستواهن الدراسي. وجلّهن لا يمكن أن تقرأ على وجوهن ما يشير إلى أنهن خارجات على القانون. لكن لا يفوتك الاستسلام الذي سكن ملامحهن. في طريقنا إلى الخارج، سألتُ إحداهن عن مدّة محكوميتها. أخبرتني أنها ثلاث سنوات، بتهمة النصب والاحتيال. وقالت إن زوجها هو المدبّر، وإنها متهمة بالمشاركة معه. حينها تذكّرت ما حدث لي منذ سنوات، لمّا دخلت السّجن أول مرة، لعمل صحافي، لا في لقاء أدبي.
أخبرني سجناء من الذين تسمح لهم الإدارة بحرية الحركة داخل السّجن، بسبب سلوكهم الحسن، وميلهم إلى المساعدة، بأنّهم أبرياء من التهم المحكومين بها. وهي تهم ثقيلة جدا، أكبرها القتل العمد، بمحكومية 25 سنة لأصغر عضو في المجموعة، والاتجار في المخدّرات بـ 15 سنة، لآخر. كلاهما كانا قادمين من وسط لا يمكن تخيّل ارتكاب فرد منه هذه الجرائم، فالأول شاب صغير من عائلة محترمة، ومتعلمة، والثاني كان فقيهاً وحافظاً للقرآن، وأكثر وعياً من معظم الفقهاء.
اللقاء بهما، والتأرجح بين التفكير في أن حياتيهما ضاعتا بسبب جرائم ملفقة، أو العكس زعمهما البراءة بعد ارتكاب جرائم، مربك، فتوقفت عن زيارة السجن لأي سبب كان.
كانت زيارة السجن أخيرا ضمن فعاليات ملتقى الرّواية في أغادير، عن الصحراء في الرواية. في الافتتاح، وفي سياق الحرية المشروطة، كُرّم الصّحراوي الأشهر إبراهيم الكوني. سألته في الجلسة الحوارية، عن الغياب الكلّي للمرأة في أحاديثه، وحواراته، وصورتها السّلبية في رواياته، خصوصا "التبر" التي حمّل فيها بطلها أوخيد المرأة مسؤولية تعاسته. ليست المرأة سوى الوتد الذي يقيّد حركة الرجل، وفخّ الطبيعة لكل طير حر. في جوابه، قال الكوني إن الرّجل روح تحب التّحليق، والمرأة منزل، لأنّها تحبّ الاستقرار والزواج والإنجاب. كان في كلامه كليشيهات كثيرة، لا تأخذ بالاعتبار أبسط الحقائق، وهي طبيعة النساء في الصحراء، وفي كل مكان. ثم، أليست هي روح أيضاً؟
نجد عند روائي صحراوي آخر، هو السُّوري خليل النعيمي، الذي كان ضيفاً على الملتقى، امتداداً للصحراء، ولونها الذهبي وعواصفها الرملية. وبلقائه، عرفت أن في سورية صحراء، لها طقوسها وإيقاعها الذي يلتقي مع كل المناطق الصحراوية، في المحيط الجغرافي. وعلى عكس الكوني، قدّم النعيمي صورة الصّحراوي المندمج في المدينة.
لعل لقاء الصّحراء والسجن، كان مصادفة، فكرة لم يقصدها مدير الملتقى الروائي القادم من الصّحراء، عبد العزيز الراشدي، لكنّها مصادفة موحية. فالصّحراوي/ة يولد من رحم الحرية، في التلال الرّملية الممتدّة حيث لا جدران تحدّها. لكن ماذا عن العطش والتيه والعواصف الرّملية ألا تحاصر الصّحراء؟ وهل وجد السجناء حرية أكبر، حين وجدوا أنفسهم داخل أسوار السجن، حيث فتحت لهم أبوابٌ لا تُفتح خارجه؟