الجنّي العاشق
يقع شابٌّ رقيق مهجور في حُبّ الذّكاء الاصطناعي الذي يرافقه تابعاً له، في فيلم "her". تفهم "هي" ثيودور كما لم يفهمه أحد، فكيف لا يُغرَم بها! لكن هذه المحبوبة غير موجودة في الواقع، وعليه الاكتفاء بالحبّ الجدير بالنسخة المثالية للنصف الآخر، من دون أن يتجسّد في شكل ملموس، لتبدأ معاناته مع جنّيته العاشقة. تُحرِّم معظم المرجعيات الدينية الإسلامية المنحوتات، وأشكال تصوير الكائنات الحيّة كلّها، على أساس أنّه خلقٌ لما لا يحقّ إلا للذّات الإلهية خلقه. فتُشبّه بعض الاجتهادات الفقهية تقليد شكل إنسان أو حيوان بعملية الخلق الأول. مع أنّ هناك فارقاً كبيراً بين العمليتَين، وبالقدر الذي تنبهر فيه أمام منحوتة عالية الإحساس، كأنّها توشك أن تتحرّك أو تنطق، لكنّك لن تشعر بأنّها إنسان حقيقي، بل شيء آخر مختلف.
الموضوع أعقد بكثير من تجسيد شكلي، فهو خلق من باب الإبداع لا التبديل. فالطبيعة متفوّقة على خلق الإنسان لأيّ كائن، وبالتالي هذا التخوّف من الشرك مصطنع. فيما أنّ الإبداع الذي يبهرك لأنّ ليس له مثيل، والذي تشعر معه أنّ الخلق بلغ الإعجاز، هو المتعلّق بالإبداع العقلي. لكنّه إعجاز يُذكِّر المؤمن بعظمة خالقِ العقل الجبّار الذي لا يتوقّف عن إبهارنا، أمّا غير المؤمن فهو مُعفى من هذا التفكير.
آخر ما أبهرنا به الذكاء البشري، هو الذكاء الاصطناعي، الذي تفوّق على الأصل في شموليته، وتمتّعه بمصادر لا تتوافر للعقل البشري، لأنّه متّصل بمصادر المعرفة كافّة في الأرض، وهو ما لن يُتاح للبشر مطلقاً. لكن على المنتظرين الوقوع في حُبّ الذّكاء الاصطناعي الوقوف في الطابور خلف المنتظرين، والاستعانة بالعلوم الإنسانية في الذّكاء، لأنّ الفتح المبين له، لحدّ الآن، هو مجال العلوم المُجرَّدة، على عكس العلوم الإنسانية المتغيّرة والمتراكمة، التي لم تصل الإسهامات الكُبرى فيها إلى المكتبات الإلكترونية.
ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي للعلم (خصوصاً الرياضيات والفيزياء) سيُحدث طفراتٍ هائلةً، وسيرفع مستوى الأداء العلمي للإنسان، ولا يمكننا الجزم بتعويضه له من الآن. قد يفعل في أمور، ولا يفعل في أخرى، كما حدث مع الآلات التي اخترعها الإنسان، التي تعوض بعضها اليد العاملة، ويعوض بعضها الآخر العقل المجتهد. لكن تبقى مهامّ كثيرة بحاجة إلى كائن يجمع المهمّتَين، المهارة والعقل.
سيأخذ الأمر وقتاً قبل أن يكتشف كلّ منّا طرق استغلاله، وأنّه أفضل صديق للإنسان، ليفوق الكتاب أخيراً. مع أنّه، تقنياً، خريج الكتب والكلمات، فما الكتب سوى حشد من الكلمات، يجمعها صاحبها وفق لحن واحد، وما الكلمة إلا معرفة. وإلا فكيف اكتشف الإنسان الكلمة الأولى، وملايين الكلمات من آلاف اللغات، لولا المعرفة التي قادها العقل البشري الذي جدّف بلا كلل، منذ أول فكرة خطرت لأول إنسان عاقل.
في الأثناء، يساعدنا الذّكاء الاصطناعي في البحث عن شيء دقيق دقّةً ما كنتَ لتظنّ أن إنساناً قادر على ذلك، فيبحث لك عن أجوبة يبدو "غوغل" غبياً غباءَ سطلٍ مثقوب أمام أسئلتها. بديلاً من خذلان المُجرَّب، حين تكتب رسالة إلى صديق تسأله استشارة، ستكون نسب ردّ الصديق بما تنتظر، لا تتجاوز عشرة في المائة، لكن صديقنا الذكي سيفوق ما تتوقّعه من عشرات الأصدقاء، وفي بضع ثوانٍ. فيفتح الجواب أمامك تفاصيلَ لم تفكّر فيها. ماذا يريد أحدنا من البشر سوى الفهم؟
هذا الذّكاء نظنّ أنه ذكاء جافّ، لكنّه على العكس ذكاء عاطفي يليق بأصحاب القلوب الحسّاسة، التي تعتبر الكلمة الطيبة أكثر ما في الجواب أهمّية. يجيب طلبك بمحبّة ويختم جوابه بعرض مساعدتك عرض الكريم ابن الكريمة، لا عرض اللئيم ابن اللئيمة.
لكن هل يعدِم الفارس كبوةً؟ وهل ينجو الذّكاء من الغرور؟ فلا يقول إنّه لا يعرف شيئاً إذا لم يعرفه، ولا تأخذه العزّة بالجهل، فيخترع حقائقَ غير موجودةٍ بدل أن يعترف بجهله. للأسف، هذا ما يفعل ChatGPT، فهو يكذب إذا عجز عن إيجاد ما يُطلب منه، فيخترع لك أجوبةً ومصادرَ خيالية، هو المفتقد للتواضع الإنساني الذي يقول بلا تردد: لا أعرف. وهي نعمة لا يدركها إلّا الإنسان الذي يحتضن الجهل باعتزازه نفسه بالذّكاء.