أدهم النابلسي وجناية الاعتزال
فوجئ قطاع كبير من الأردنيين بوجود مغنٍّ أردني، يدعى أدهم النابلسي، يحظى بشعبية واسعة، ومتابعة كثيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ بلغ عدد متابعيه عليها أزيد من ستة ملايين من كل الوطن العربي، ما شكل لهم صدمة حقيقية، على إثر العاصفة الإلكترونية التي انطلقت بعد أن أعلن النابلسي، عبر مقطع فيديو، اعتزاله الفن، لقناعته بأن هذا الدرب لا يرضي الله. اشتعلت المواقع الإلكترونية، وانهمرت التعليقات بين مبارك خطوة الشاب ومندّد بموقفه الذي اعتبره فنانون ينطوي على إساءة شخصية لهم. تتالت اللقاءات التلفزيونية من كبريات القنوات مع الفنان الذي عبّر عن قناعاته بكل تهذيب واحترام واتّزان، فانبرى عديدون منهم له بالشتم والتجريح والتشكيك. وقد أصبحت قصة النابلسي الشغل الشاغل للرأي العام أسبوعاً حتى تاريخه، ما يكشف مقدار زيف دعاة إلى الحق في حرية التعبير ونفاقهم وازدواجيتهم، فقد جنّ جنونهم ولم يقصّروا في تشويه صورة الشاب وانتهاك حريته الشخصية في التعبير عن قناعاته وقراراته التي وصل إليها بعد تفكير طويل، كما قال في مقابلة تلفزيونية معه، ما أثار فضول كثيرين منا للتعرّف إليه. وبعد البحث في أرشيف الفنان الذي وصل إلى المراحل النهائية من برنامج إكس فاكتور، من دون أن يحرز اللقب الأول فيه، وإنما أحرز شهرة واسعة، وقدّم أغنيات متميزة عديدة. اتفق الرأي لدى الأغلبية على أنه يمتلك صوتاً جميلاً وحضوراً مقبولاً لدى فئة الشباب خصوصاً.
لم يرتكب النابلسي جناية يُعاقب عليها القانون، ولم يكن أول من اتخذ مثل هذا القرار الشخصي جداً، مضحياً بجماهيريته، فقد سبقه الفنان ربيع الخولي الذي قرّر في الثمانينيات من القرن الفائت، وفي أوج شهرته، أن يعتزل الفن، ليصبح راهبا ومن ثم كاهنا في جامعة الروح القدس، وهو منذ سنوات رئيس جمعية روح الرب في تورنتو بكندا. لم تخرب الدنيا آنذاك لقرار ربيع الخولي، ولم يرجمه أحد ولم يرَ أي من الفنانين في خطوته إساءة شخصية لأيّ منهم. بل عبّر الجميع آنذاك عن احترامهم خصوصية الفنان الوسيم المحبوب، صاحب الصوت الجميل والأغنيات العذبة الذي كان وقتها شاغل الناس. كذلك فإن قائمة معتزلي الفن للأسباب نفسها تطول منذ شمس البارودي وشادية وعفاف شعيب ومحمد العربي (وحنان الترك) وغيرهم كثيرون. منهم من ذهب باتجاه التشدّد والتطرّف، مثل حنان الترك، المعروفة بمشاهدها الجريئة في السينما. وقد وصل بها الحال من التشدّد إلى أن تفتي من عندها بحرمة شجرة عيد الميلاد. ومنهم من اختار العزلة والابتعاد عن الأضواء والانسحاب بهدوء، دون مزايدة وتكفير الآخرين والحطّ من قيمة تجاربهم أو التعدّي على حريتهم في اتخاذ القرارات الخاصة بشأن طريقة عيشهم.
أدهم النابلسي شاب في مقتبل العمر، لم يجد في طريق الفن راحته النفسية، واتخذ قراراً حرّاً بالابتعاد، وهذا حقه الذي علينا احترامه والدفاع عنه، بغضّ النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه في رؤيته إلى الفن. ولا أحد يدري، قد يعود عن قراره يوماً ما، وهذا أمر عائد له، وقد تصرّف بشكلٍ لائق، حين خاطب جمهوره من باب الاحترام، معلناً قراره الاعتزال انطلاقاً من الشعور بالتزامه بتوضيح الحقيقة لمتابعيه. ولم يتضمن إعلانه أي إساءة لأحد، وإن صرّح بأنه يرى أن طريق الفن لا يرضي الله، فذلك معتقده وقناعته. لم يقصد، كما أكد في أكثر من حوار معه، إثارة هذا اللغط الكبير الذي كان أول من فوجئ به. بالنتيجة، كشفت هذه الحكاية مقدار تعسّف متلقين كثيرين منا، ومدى جهلهم بأبسط قواعد الحوار الديمقراطي، وعجزهم عن قبول الآخر أو احترامه حتى، وتجرّؤهم على إطلاق الأحكام وانتهاك خصوصية الآخرين.
ويبقى الفن، على الرغم من كل هذه الضوضاء، قيمة إنسانية سامية، على أن نطوّر ذائقتنا، بحيث نحسن التفريق بين الفن المبتذل الهابط، وهو الشكل السائد للأسف، والفن الراقي العميق الملتزم، ضرورة جمالية في زمننا المقفر هذا.