أرجوحة باريس بين الجزائر والرباط

28 اغسطس 2022
+ الخط -

في ظل أزمة الطاقة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، وبعدما كانت الرباط وجهته الأولى في يونيو/ حزيران 2017، اختار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بعد انتخابه رئيساً لعهدة ثانية، التوجه إلى الجزائر، في أولى زياراته للمغرب العربي. وإذا كان اختيار الجزائر وجهة أولى قد دأب عليه أغلب رؤساء فرنسا السابقين، حتى أكثرهم تأييداً لمغربية الصحراء، مثل الرئيسين نيكولا ساركوزي أو جاك شيراك، باعتبار الروابط التاريخية التي تجمع فرنسا ومستعمرتها السابقة، فإن من باب أَولى أن تكون الجزائر الوجهة الأولى هذه المرّة، ففرنسا اليوم في حاجة ملحّة وبليغة إلى تنويع مصادرها من الطاقة، وحاجتها إلى الغاز الجزائري قصد تعويض الغاز الروسي واضحةٌ للعيان، فإلى حدود بداية هذه السنة، كانت فرنسا تستورد 43% من طلبها الداخلي من الغاز الطبيعي من النرويج، تتبعها روسيا بحوالى 21%، ثم هولندا بما يناهز 11% لتأتي الجزائر في المركز الرابع فقط بـ8%. ومن هنا، الطابع الاقتصادي الذي يغلب على هذه الزيارة.

لا تقلّ حاجة فرنسا إلى الغاز الجزائري أهمية عن حاجتها إلى التعاون الأمني مع المغرب لمكافحة الإرهاب. وإذا كان شراء الغاز متاحاً في الأسواق العالمية، ولو بكلفة أكبر، فإن حاجتها للتعاون في المجال الاستخباراتي مع المغرب لا يمكن أن تُشترى في السوق. أما المغرب، فهو بحاجةٍ إلى دعم واضح من فرنسا في ملف وحدته الترابية، وهو دعمٌ فاترٌ منذ وصول ماكرون إلى السلطة، أدخل الشك والريبة بين الحليفين التقليديين. أما الجزائر التي توجد في موقع قوة من الناحية الاقتصادية بفضل أزمة الطاقة، فإنها بحاجة إلى إعادة الاعتبار السياسي والتاريخي والنبش في الذاكرة كي تعترف فرنسا بجرائمها ضد الشعب الجزائري.

قوى منافسة جديدة في المنطقة تحول دون استفراد فرنسا بالمنطقة

لكن زيارة ماكرون للجزائر تأتي أيضاً مع حديث داخل الكواليس عن وجود أزمة سياسية صامتة بين الرباط وباريس، ففرنسا الحليف التقليدي للرباط لم تَحذُ حذو الولايات الأميركية في اعترافها بمغربية الصحراء، ولم تحرّك ساكناً حتى بعد تغيير المواقف الإسبانية والألمانية لمصلحة المغرب، وفرنسا هي المعنية بالأساس بتوضيح موقفها في خطاب الملك محمد السادس يوم 20 أغسطس/ آب الجاري، فضلاً عن الحنق الشعبي الناتج من أزمة التأشيرات التي حرمت عشرات الآلاف من المغاربة زيارة ذويهم، أو الذهاب لقضاء مصالحهم من شغل ودراسة وأعمال وغير ذلك، وهذه مشكلة تتقاسمها الرباط مع الجزائر.

منذ استقلال دول المغرب العربي، لم تألُ فرنسا أي جهد، من أجل الحفاظ على مصالحها الكبرى في هذه المنطقة، لإبقاء مستعمراتها السابقة داخل دائرة نفوذها السياسي والاقتصادي. لبلوغ هذا الهدف، استعملت فرنسا مكانتها الدولية، ثم قوتها الاقتصادية وتأثيرها الثقافي، حيث تبنّت استراتيجيةً تهدف إلى ربط الطبقة السياسية المتحكّمة في هذه البلدان بثقافتها وتعليمها، ثم دعمت الأنظمة القائمة في المنطقة، وساهمت، بشكل أو بآخر، في تعطيل مسار العجلة الديمقراطية التي قد تعوق مخططاتها. ومن ثمّة، حافظت على مكانتها، واستطاعت أن تبقى الشريك السياسي والاقتصادي الأول لهذه البلدان عدة عقود، إلى أن تراجعت أخيراً اقتصادياً إلى الصف الثاني في كل من المغرب والجزائر، وقد يزداد مسلسل التراجع حدّة إذا لم تغير فرنسا سياساتها، بل قد يكون نقطة انطلاق حقبة جديدة، تنبئ ببداية أفول نجمها، لا في هذه المنطقة فحسب، بل في مجمل القارة الأفريقية، وما طردها من مالي إلا طالع شؤم لها.

تدرك فرنسا أنه حتى لو كان قلبها مع المغرب، فإن جيبها مع الجزائر

قد يُعزى هذا التراجع إلى بروز قوى منافسة جديدة في المنطقة تحول دون استفراد فرنسا بالمنطقة، وتنقص من هيمنتها، فاتحاً المجال لتعدّد الشراكات وتنوعها، لكنه يرجع، بالأساس، إلى سياسات فرنسا المتبعة، فما زالت عقلية المستعمر غالبةً على ذهنية بعض الطبقة السياسية الفرنسية التي لا تريد أن تتعامل مع بلدان المنطقة بمنطق الندّ للندّ من دون تعالٍ أو غطرسة. أو لنقل على الأقل بمنطق احترام السيادة الكاملة، وهو ما يجعل العلاقات متوترة متشنّجة. ويدفع نحو البحث عن حلول أخرى، فعلى سبيل المثال، عندما ترفض فرنسا منح تأشيرات الدخول لأراضيها لنخبة أبناء المغرب العربي، فهي تدفعهم إلى الذهاب إلى بلدان أخرى، وسيقلّص من نفوذها وتأثيرها عاجلاً أو آجلاً، ولا سيما مع الاهتمام المتزايد بالمنطقة من لدن دول مثل الصين وتركيا، مروراً بألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، من دون نسيان روسيا التي تربطها علاقاتٌ وثيقةٌ مع الجزائر منذ عهد الحرب الباردة.

حرصت فرنسا دوماً على إيجاد توازن جيوسياسي واستراتيجي في علاقاتها مع البلدين العربيين الجارين، ما جعل مواقفها متأرجحةً متمايلة، فبالرغم من دعمها الثابت للمغرب في قضية الصحراء المغربية منذ وصول جاك شيراك إلى الرئاسة، إلا أنها تدرك أنه حتى لو كان قلبها مع المغرب، فإن جيبها مع الجزائر، والرئيس ماكرون الذي جاء إلى عالم السياسة من عالم المال والأعمال لم ينسَ خلفيته المصرفية البنكية التي تبحث دائماً عن الصفقات التجارية المربحة. ولهذا ينتهج سياسة براغماتية تتعامل بمنطق الربح والخسارة، وزيارته الجزائر تندرج في هذا الباب، فهو يريد أن يربح الجزائر من دون أن يخسر المغرب. قد يتمكّن من ذلك، لكنه قد يخسرهما معاً.

باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط
مهندس معلوماتيات، باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية، نائب عمدة سابقا في الضاحية الباريسية.
عمر المرابط