أسئلة صعبة متوارية
تتجلى في حضرة الموت هشاشتنا الإنسانية في أكثر صورها انكشافا. نسقط حالا في براثن لحظة العجز القاهرة. تفقد كل الأشياء معناها، وتغدو الشواغل والهموم التي تقضّ مضاجعنا، وتُفسد علينا لذّة العيش محض توافه لا وزن لها ولا قيمة. يتلاشى الطموح ويذوي الأمل وتتراجع الأحلام. يتوقف الزمن برهة موحشة. وتطرح الروح أسئلتها الصعبة المتوارية في تفاصيل الانهماك اليومي، حيث تجرفنا ساقية المعتاد والمتكرّر، مثل ثيران غافلة عن كل شيء سوى سعيها اللانهائي في دائرة اللهاث العبثية، فنتغاضى متواطئين عن أن لا مناص من الانصياع لمقادير ميزان عدالتها القدرية العمياء التي لا تستثني ولا ترحم أحدا منا. وهي وحدها من تقرّر كيف ومتى، من دون أن تمنحنا حق وداع للأحبة، لعل وداعا لائقا يسند أرواحهم المتعبة في وحشة الغياب الذي يحل دائما دونما ميعاد، لا يملكون حق طرح سؤال لماذا.
لا مكان لسؤالٍ ساذج وغير مجدٍ كهذا، حين يقول القدر كلمته الحاسمة غير القابلة للنقاش. عندها لا يتسنّى لنا سوى الإذعان والتسليم. إزاء لحظةٍ فاصلةٍ قاطعة كهذه، تتفاوت ردود أفعال البشر وطرائق مواجهتهم الموت، وهو الحقيقة المؤلمة التي شغلت العلماء والفلاسفة والكتاب والشعراء والفنانين على مدار الزمن، فأمعنوا في تأملاتهم وتأويلاتهم حائرين عاجزين مقرّين، في المحصلة، أن هذا اللغز الموجع غير قابل للحل، مهما جرت من محاولاتٍ لتفكيكه، لأن الغموض جوهر تركيبته المعقدة العصية على الإدراك. وغالبا ما دفعت بالبشرية إلى الإقرار بعجزنا المطلق أمام سطوتها، غير أن من يحظون بنعمة الإيمان الفطري الخالص من شوائب الريبة والشك، ويملكون تلك الطاقة الروحية الجبارة النابعة من عمق الجوارح، يواجهون خسارة الأحبة بأقل الخسائر الممكنة، وبنفوس راضية مطمئنة، على الرغم من مشاعر الحزن واللوعة التي يرتبها الغياب القسري، غير أنهم يجتازون أحزان الفراق بيسر وسلاسة، كونهم متيقنين من أن الموت، بكل قسوته، لا يعني بالضرورة فراقا أبديا، بل هو عبور حتمي إلى منطقةٍ أكثر سموا. وفي تلك الفكرة يكمن العزاء كله، فهم مطمئنون إلى مصير راحلهم، حيث فردوسٌ من الهناء، خال من الألم والندم والتأثيم، فضاء رحب فسيح مسالم فسيح، تحلق فيه النفس المطمئنة في طريق عودتها النهائية.
أما من ابتلي بالشك والريبة وانعدام اليقين، فإنه يجد نفسه في موقفٍ عصيب، حيث حزن كبير بلا عزاء حقيقي، عند فقدانه عزيزا. سوف يعيش حالة ملتبسةً مرتبكة، تأكل الحيرة قلبه، وتتضارب مشاعره، لأن أفكاره عن العدم والفناء التي كانت تبدو له محايدة منطقية، ومنسجمة مع الحقائق العلمية حول نشأة الحياة وزوالها. تغدو في لحظة الفراق الشخصية الخاصة غير صالحة للتطبيق على مصير أحبته الراحلين. يرفض تلاشيهم في الفراغ، هكذا ببساطة وعبثية. يقف مضطرا عند مفترقٍ حاد، يدفعه إلى إعادة النظر في فكرة الموت، فيحاول ابتداع سيناريو أقل وطأة. يفسح المجال أكثر للغيبي الغامض المجهول أن يرأف بحال الأحبّة الراحلين. وتبدو تنظيرات الفلاسفة والمفكرين بلا معنى، عاجزة عن مواساة روحه المكلومة الظامئة إلى يقين ما.
وهناك فئة قليلة من البشر ممن يستطيع، مسلحا بالمنطق ومعطيات الواقع، مواجهة لحظة الموت بشيءٍ من البرود، وبالحد الأدنى من الانفعال، حتى لو كان الميت من أقرب الناس إليه، لأن لديه قدرة عجيبة على الصمود وضبط النفس والإقرار بالعجز عن تغيير واقعٍ تم حدوثه، أيا كانت طريقة تعاطينا مع الموت. وعلى الرغم من وجهه المأساوي المقيت، يظل الحافز الأكبر والمحرّك الحقيقي الذي يدفعنا باتجاه الحياة، كي ندرك، في مواقف فادحة كهذه، مدى تعلقنا بها، يلقننا، من خلال دروسه الصعبة، فن العيش، لنحياها كما ينبغي بالحب والعطاء والأمل، قبل أن "نُنسى كأننا لم نكن"ّ!.