أصبحت امرأة في الخمسين
ماذا يختلف صباح اليوم عن مساء أمس مثلا، فهو جاء ليعلن أنني أصبحت في الخمسين. أفقت على صوت مختلف عن الأيام الماضية، الصوت الذي يدلّل غرور امرأة حمقاء الذي كان يقول لي مرحى، أيتها المرأة الأربعينية التي تستقبل يوما جديدا. وأتذكّر ثمار المشمش واللوز التي تغنّى بها الشعراء، وأتذكّر مثلا لطالما ردّده والدي، رحمه الله، عن أي شيء لا يدوم بقوله "جمعة مشمشية". هكذا لم يدم هذا الدلال الذي كان يعزّيني، لا أدري كيف تسلل عقد الأربعين من عمري، لأفيق اليوم وأستقبل التهاني والأمنيات بأني قد أتممت عامي الخمسين. والحقيقة أن أكثرهم قد ضحك في لزوجة، لأن شيطان منتصف النهار قد مسّني، معلنا أنني قد خطوت نحو سن الخطورة الأنثوية.
بتلقائيةٍ، وجدت أن عليّ أن أنهض من سريري، وأتجه نحو المرآة مثلما أفعل كل صباح. أتحسّس الخطوط الرفيعة حول عيني. وأقيس بعين القلق ضمور وجنتيّ المنتفختين، أو اللتين اعتدتُ أن تكونا منتفختين على جانبي صفحة وجهي. وألعن بداخلي أحاديث الأطباء عن انسحاب الكولاجين من البشرة، وانخفاض مستويات هرمونات الأنوثة، وأقرّر ألا ألقي بالا لذلك كله، بنظرة نحو كتبي المكدّسة فوق المكتب، وأهمس لنفسي، كما كل صباح، أن الكتابة سوف تبقى منقذي من هاجس العمر الذي يرعب كل النساء.
لم أشعر في هذا الصباح أن شيئا قد تغير، جميعهم قد تركوا لي الأمنيات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك قلة من اختاروا أن يكتبوا لي رسائل نصّية تقليدية، وهناك اثنان أو ثلاثة قد اختصروا مشاعرهم نحوي بكلمتين عبر رسالة نصّية غير تقليدية. وعلى كل حال، لم أشعر بتغيير يُذكر سوى أنني اليوم أصبحت أمتلك غرفة نوم تطلّ على شرفة صغيرة ضيقة، وعلى الشارع الذي تنهبه السيارات، فقد انتقلت من محل سكني السابق، ولم تعد شرفتي تطلّ على الأشجار وصوت العصافير وتقافز القطط الشبقات، وكأن هذه الخطوة الانتقالية جاءت في توقيتٍ مناسب، ربما هناك شفقة خفية ومدروسة نحوي من تدابير القدر، بأنني يجب ألا أراقب الربيع والخريف، وهما يزوران الحديقة السفلية. عليّ أن أعتاد على هذه الحركة الدؤوبة للسيارات والمارّة والشارع الذي لا ينام، وكذلك المدينة الإسمنتية التي تحيط بي من كل جانب، وكأن أيامي المقبلة سوف تكون متشابهة.
حتى ليلة أمس، وقبل أن تدقّ الساعة منتصف الليل، ومنذ ليال سابقة، لا أشعر بشيء سوى آلام جسدية لانحسار هرموناتي. هل هناك جرس إنذار يدقّ، ليخبر المرء أنه قد انتقل من عام إلى عام من عمره، أو أنه قد انتقل من وصفٍ إلى وصف. عليّ أن أسحب تنهيدةً طويلةً وعميقةً، وأتذكّر متى كفّ الجميع من حولي عن مناداتي بألقاب محبّبة ومدلّلة، وبات معظم من أتعامل معهم يرون أنني في عمر أمهاتهم. تبّا لهم أو ليس تبّا، فهم في عمر أولادي بالتأكيد، ولا يمارسون سوى ما جبلوا عليه بإحالة المرأة إلى التقاعد الأنثوي باكرا. أما أنا وفي أعماقي فلا زلت أشمّ رائحة المشمش واللوز فوق غصن أخضر بعيد.
هل حقا لن يختلف اليوم عن أمس، فماذا يعني أن أُصبح اليوم موصوفةً بلقب امرأة خمسينية. وبعد عشر سنوات، سيقولون امرأة ستينيةً، وفي داخلي ما زالت تلك الحمقاء التي تلقت قبلة خاطفة على درج بناية قديمة في قلب القاهرة تتمنّى لو عاد بها الزمن لكي لا تتمنع ولا تحمرّ وجنتاها، فاليوم هي أكثر نضجا لكي تكتشف أن ذلك كان حقا مشروعا ومشروعا لقصة حبّ قد تستمر، أو علاقة عابرة شقية، مثل كعكة شهية طازجة من فوق عربة جائلة، تلتقطها في صباح باكر، وأنت تُسرع إلى عملك. هذه المغامرة التي سكنت ذاكرتي سنوات، ولم أستطع أن أخوض مغامرة أخرى بسببها، ولأن المجتمع ألبسني باكرا ثوب الزوجة والأم المستسلمة للسلطة الذكورية السرمدية القاسية.