أطراف مبتورة
عندما كنّا أطفالاً أشقياءَ لا نكفّ عن القفز مثل البراغيث، كانت أمّي تنصحنا أنّه للتخلّص من الزاحف "أبو بريص" يجب أن نضربه على رأسه، لأنّ ضربه على ذيله سوف يبقيه حيّاً، وسينمو له ذيل جديد. طويلاً، تخيّلت ذيل "أبو بريص" ينمو، ولم أتردّد بالاحتفاظ بأحد أفراد ذلك الزاحف في علبة مغلقة في انتظار أن ينبُت له ذيل جديد. ولأنّ ذلك صحيحُ علمياً، تمنّيت أن تنبت ذراعان لأول رجلٍ رأيته في حياتي مبتور الذراعيْن، وهالتني قدرتُه على استخدام ما تبقّى منهما، حتى أنّه كان يضع ساعة اليد في ما تبقّى من ذراعه اليسرى، ويتناول الطعام بذراعه اليمنى معلقاً فيها ملعقة. رأيتُه للمرّتين، الأولى والأخيرة، في مناسبة عائلية، ولشدّة إشفاقي عليه، تمنّيت لو أنّه كان مثل "أبو بريص"، يستيقظ ذات صباح بذراعين جديدتين.
في الحروب التي مرّت على غزّة، فقد كثيرون أطرافهم، كما استخدم جنود الاحتلال المتمركزون عند حدود القطاع، خلال "مسيرات العودة"، أسلحة محرّمة تفتّت عظام أرجل الشبّان وتهتك أنسجتها، ما يجعل البتْر خياراً وحيداً لإنقاذ حياة المُصاب. وفي الحرب الطاحنة اليوم، التي لم نشهد لها مثيلاً، من ينجو من الموت اللحظي يموت موتاً بطيئاً بسبب فقدانه أحد أطرافه، العلوية أو السفلية أو جميعها. وأوجعتْنا صور الأطفال المصابين ومشاهدهم، خصوصاً من فقدوا ذراعاً أو ساقاً، يتساءلون في براءةٍ موجعة، ومع كلّ أملٍ ورجاء، عما إذا كانت ساقٌ أو يدٌ جديدةٌ ستنبُتُ عوضاً عن التي غابت في حفرة أو التي تحولت أشلاءَ يصعب جمعها.
يقدّر الأطباء أنّ هؤلاء الأطفال، ومعهم كبار السن، أكثر عرضة لبتر الأطراف لعدم قدرة أجسادهم على الصمود أمام الجروح والحروق التي تنال منهم. الشبّان معرضون أيضاً لبتر أطرافهم، وقد يرجون الأطباء كي لا يبتروها حين تُصاب إصابة بالغة، كما كانت حال المصوّر سامي أبو شحادة، الذي لم يكن لدى طبيبه حلّاً بديلاً عن بتْر قدمه، أصرّ بعدها أبو شحادة على العمل بساق واحدة. هل يمكن لك أن تتخيّل كيف ستكون الحياة مع جسدٍ ينقصُه عضو من أعضائه. كيف هي حال من فقدوا أطرافهم الأربعة؟ إذا أطلقت العنان لخيالك بشأن ذلك، ستعلم كم يعوق ذلك الحياة! ويحوّل الإنسان عالةً على غيره، في ظل عدم توفّر الإمكانات لتركيب أطراف اصطناعية بديلة، وستُدرك كم هو مؤلمٌ شعورُ من بُتِرَتْ أطرافهم من دون تخدير بسبب شحّ الإمكانات الطبيّة وخروج المستشفيات في غزّة عن الخدمة! ويمكن لك أنّ تتفهم شعور الطبيب الذي يبتر ساق أعزّ الناس إليه وأقربهم، مثل ذلك الطبيب الذي اضطر إلى بتر ساق ابنة أخيه على طاولة المطبخ، وأنّ تتفهّم حالة هؤلاء الأشخاص وذويهم، حتى في غياب إحصاءات رسمية بأعدادهم.
من المؤلم أيضاً أن تعلم أنّ هناك حالات كان من الممكن أن تعالج من دون اللجوء إلى البتْر، لكنّ نقص وسائل الإسعاف والمضاعفات، من تسمّم وضعف تروية للعضو المصاب تدفع إلى اتخاذ قرار البتْر، وهو الأشد قسوة على الطبيب والمريض معاً. بالطبع، تَتَمَنّى أمام هذه القرارات الموجعة لو أنّ الأطراف تنمو بعد قطعها، مثل ذلك الزاحف الذي خَبَّأتَه في طفولتك بتكوينه العضويّ الفريد.