أفراح السوريين بالحمار والبذار
تداولتْ صحفٌ ومواقع إخبارية سورية، الأسبوعَ الفائت، خبراً عن استئناف إدارة الهجرة والجوازات السورية العملَ بإنجاز جوازات سفر المواطنين المتراكمة منذ شهرين، لأسبابٍ زعمت وزارة الداخلية إنّها "فنية"، وهي ليست فنيةً بالطبع، فالجميع يعرفون أنّ الإدارة المذكورة لا تمتلك دفاتر جوازات فارغة.
أفرح هذا الخبر السوريين الذين تجبرهم ظروفهم على مراجعة دوائر الهجرة في الداخل، وقنصليات النظام في الخارج، للحصول على جواز سفر بمبلغ كبير، صالحٍ مدة لا تساوي من عمر الشعوب غمضة عين (ثلاثين شهراً). وللعلم، فإنّ أفراحَنا، نحن السوريين، بشكل عام، تشبه فرحَ الرجل الذي أضاع حماره، فاستنفر أفرادَ أسرته وأقاربه وأصدقاءه، وراحوا يمشّطون الشوارع والأزقة والدهاليز، حتى عثر عليه أخيراً، فعانقه، وراحت دموع الفرح تسيل على وجنتيهما، وأحدهما يقول للآخر: آه لو تعرف كم اشتقت إليك، يا غالي.
لم يكن السوريون، قديماً، يفرحون بالحصول على جواز سفر، بل ولد الملايين منهم وعاشوا وماتوا من دون أن يفكّروا، مجرد تفكير، في الحصول على جواز، فلو حصلوا عليه، فرضاً، إلى أين يسافرون؟ وهناك سوريون صدرت بحقهم مذكّرات منع سفر من المخابرات العامة، وهم لا يدرون بها، وربما أكمل الواحد بقية أيامه، ومات، وهو لا يدري أنّه كان خطراً على أمن دولته وممنوعاً من السفر. أنا أعرف، كذلك، أناساً من بلدتي معرتمصرين، عاشوا وماتوا ولم يسافروا إلى حلب التي تبعد خمسين كيلومتراً عن بلدتهم، وما كانوا يذهبون إلى إدلب (تبعد عنهم عشرة كيلومترات) إلّا لإنجاز معاملةٍ إدارية يتطلّب إنجازُها حضور صاحب العلاقة شخصياً، كالحصول على قرضٍ من المصرف الزراعي، أو أكياس خيشٍ لأجل تعبئة محصول القمح، أو كمية من بذار البطاطا...
للسوريين قصص وحكايات وشجون مع ما تُدعى "أسباباً فنية"، فالمواطن "سين" عُرقلت معاملته التي أمضى ساعات وهو يتابعها في إحدى دوائر الدولة، لأن الموظف المختص خرمان على سيكارة وكأس شاي، أو لنفاد الورق من الآلة الطابعة. وتعرّض "صاد" للخطر بسبب الانقطاع المفاجئ للتيار الكهربائي عن غرفة العمليات في أثناء نزول المنظار في معدته. وأمضى "عين" نصف النهار واقفاً أمام الصرّاف الآلي ليقبض راتبه، وعندما حان دوره كانت النقود الموضوعة داخل الصراف قد نفدت.
ومن حكايات التسعينيات، أنّ كمية بذار البطاطا المتوافرة لدى الدولة كانت أقلّ من الحاجة الفعلية للفلاحين. وقتها تفتقت عقلية بعض المقرّبين من العصابة الحاكمة عن فكرة جهنمية، الحصول على ورقة "استثناء" من وزير الزراعة أو مدير مؤسسة إكثار البذار، ثم تسلّم الكمية المحدّدة من المصرف الزراعي. وبما أنّ شعار المرحلة هو التطوير والتحديث، فقد "طوّروا" الفكرة، وصاروا يبيعون ورقة الاستثناء للمزارع المضطرّ إلى شراء البذار، ويحققون ربحاً كبيراً. فيوم كان المعدّل الوسطي لراتب الموظف الجامعي خمسة آلاف ليرة سورية، كانت تلك الورقة الصغيرة تُباع بخمسين أو ستين ألف ليرة. وزاد في طنبور التطوير والتحديث نغماً، أن انتبه ضباطٌ في الجيش إلى باب الرزق هذا، فصار واحدُهم يتحيّن الفرص ليقوم بزيارة ودية للوزير أو لمدير مؤسسة البذار، ويعرّفه بنفسه، محاولاً أن يَظهر أمامه أنه من النوع الذي يضرّ وينفع، ويمكث في مكتبه ساعتين أو ثلاثاً، حتى تسنح الفرصة، فيهمس للمدير بأن والده (المتوفى منذ سنين) مزارع، ويحتاج إلى بضعة أطنان من البذار. وما إن يوقع له المدير ورقة الاستثناء، حتى يحملها ويخرج فرحاً أكثر من الفرح بملاقاة الحمار، ويبيعها لأقرب سمسارٍ واقفٍ عند باب المديرية.
يجدر بالإخوة قراء "العربي الجديد" من غير الجنسية السورية أن يثقوا بنا، ويصدّقوا ما نخبرهم به. وخلاصته، هنا، أنّ معظم المزارعين الذين يزرعون حقولهم بالبطاطا في تلك الفترة كانوا يشترون بذارهم من ضباط جيشنا العربي السوري الباسل.