أكثر من مجرّد مستشفى
قد يتساوى السيئ والحسن أحياناً، وقد يرتبط في الذهن أنّ أيّ مُصطلحٍ أو اسمٍ لمكانٍ يعني دلالاتٍ كثيرة، وحشداً زَخِماً من الذكريات. ولذلك، حين يُذكَر اسم مكانٍ معروفٍ أمام أيّ غزّي، خاصة لو كان قَرَويّاً من جنوبي القطاع، لن يعرف من مدينة غزّة أكثر أو أبعد من مستشفى الشفاء، وسوف يُخْبركَ أنّه قد استقلّ ذاتَ يومٍ، وعلى عجل، سيارة أجرة متهالكة حين بلغه خبرُ نقل أحد أقاربه إليه. والخبر يعني أنّ في الأمر خطورةً، وأنّ عليه أن يُسرع قبل فوات الأوان. وحين يصل إلى "الشفاء" سوف يتوه بين الردهات التي تنبعث منها رائحة الأدوية والمنظّفات المُعقّمة، وسيتأمّل المباني المتهالكة التي جرى تجديدها في السنوات الأخيرة، وسيسأل أكثر من ممرّضٍ وممرّضةٍ، على استحياء، حتى يَصِلَ إلى المريض الغالي، الذي ذهب إلى المدينة الكبيرة لإنهاء معاملة حُكومية، لكنّ سيارةً مسرعةً صدمته ونقل إلى مستشفى الشفاء. ومن الطبيعي والمسلّمِ به أنّه حين يطمئن على صحّة المريض يغادر المستشفى، ويقف أمام البوّابة الرئيسية دقائق تكفي لأن يناديه أكثرُ من سائقِ سيارة أجرة مشيرين بأيديهم نحو جنوبي القطاع، لكنّه يتمهّل لكي يشتري بعض الكعك بالسّمسم، مؤكّداً لمن هم في انتظاره أنّه قد قام بالمهمّة، وربما حَمَلَ بعض الفاكهة، مثل الموز والتفاح، حين يكتشف جودتهما وانخفاض سعرهما لأنّ مصدرهما هو الأقرب إلى معبر نقل البضائعِ إلى القطاع. هناك، حيث الفاكهة طازجة وأقلّ سعراً، وحيث لا تبعد كثيراً عن خطّ وهميّ على حدود غزّة الشمالية، يعرف بـ"معبر إيرز".
مستشفى الشفاء تُلاحقه سمعته، منذ سنوات، إنّه آخر الأمكنة للحالات الصعبة والمُستعصيّة، وإنّ خيرة الأطباء يعملون فيه، ويحتلّ قسم جراحات القلب هناك المركز الثالث عالمياً، وأُنشئ فعلياً في 1948. وبالمناسبة، شيّد الاحتلال بنفسه أنفاقاً تحته لأهداف عسكرية في 1983، ما جعله مزدوج الأهمية، وأدّى ذلك إلى مجازر متتالية، فيه وحوله، خصوصاً في حرب الإبادة الجارية.
ورغم الصيت الذائعِ لمُجمّع الشفاء الطبيّ، لم يمنع ذلك أخطاءً طبيّةً أن تقع فيه، ذاع صيتها وانتشرت أخبارها، لم تمنع بدورها ارتباط المستشفى بذكريات كلّ غزّي، إذ كانت خاناتُ "مكان الولادة" في شهادات الميلاد تُسجّلُ أنّ أطفالاً يولدون في مستشفى الشفاء، في وقتٍ كان فيه معظم الأطفال يولدون على أيدي القابلات في المنازل. ومن باب التفاخر أن يُصرّح أحدهم إنّ أمّه المدلّلة قد وضعته في هذا المستشفى، حين أشفق عليها الأب وأهله من صراع طويل مع المخاض وآلامه في البيت، ومع قابلةٍ لا تملك سوى عبارات التشجيع، وانتظار خروج المولود إلى الحياة، في حين أصبحت عمليات الولادة المتطوّرة تعرف طريقها إلى "الشفاء"، أكبرِ مستشفيات مدينة غزّة وأقدمها، ولا ينازعه مكانته هذه سوى مستشفى ناصر في مدينة خانيونس.
وللأسف، لا يعرف الأهالي أنّ مستشفى الشفاء قد تعرّض، عبر تاريخه، لاستهدافات عسكرية، وظلّ المساكين يعتقدون أنّ المستشفيات أماكن آمنة لا يمكن أن تتعرّض لآلات الحرب، بحسب المواثيق والأعراف الدولية، بل إنّ حجارتها تعتبر مقدّسة في كلّ الأديان، لأنّ فيها إحياءً للأنفس وشفاء لها بعد اعتلالها، لكنّ الاحتلال الإسرائيلي، وحليفه الأميركي، قد تجاوزا هذه الأعراف والمفاهيم في أكثر من حادثة في العالم، بقصف المشافي، وما يتبعها من قتلِ المرضى وإصابتهم، ومعهم الكوادر الطبّية، ولذلك كان مستشفى الشفاء الملاذ المُتخَيّل لآلاف النازحين الذين أجبرهم الاحتلال على ترك بيوتهم. وأمام إصرارهم على عدم مغادرة مدينة غزّة كان لجوؤهم إلى مستشفى الشفاء ومحيطه، فامتلأت الأروقة والردهات بالنازحين الذين زاحموا المرضى، وعرقلوا حركة الأطباء والممرّضين، ولكن ذلك لم يدفع أيّاً من الكوادر الطبية إلى مطالبتهم بالمغادرة، للسبب نفسه؛ الاعتقاد أنّ المستشفى هو الأكثر أمناً وأماناً.
ما تعرّض له مستشفى الشفاء، وما ظهر عليه في آخر صوره القاتلة والصادمة، محا كلّ ذكرياتنا، وكلّ ما تخيّلناه وما وَقَرَ في أذهاننا عن الشفاء، وحلّ مع ذِكْرِ هذا الصرح التاريخي العظيم مُسمّى الموت بدلاً من اجتلاب خيوطٍ من حياة.