أمنية أم الأسير كريم يونس
وكأنك حين تصدم بالواقع تلجأ للتعلق بالوهم أو الخرافة، أو تركض خلف مسمّيات جديدةٍ على الساحة أفرزتها الشبكة العنكبوتية، وروّجتها وسائل الإعلام عبرها، لكي يثرى أصحابها ويبيعوا ربما الوهم للناس. وفي بعض الأحيان، تكتشف أن هناك جانبا من الحقيقة فيها، وفي أحيان كثيرة، تكتشف أن المصادفة تلعب دورا كبيرا في حدوث ما تتمنّاه أو تحلم به.
لا تدري سرّ الحزن الذي تجبل عليه الأمهات الموعودات بالفقد، ولا تدري لِماذا يجد بعضهم أن أمانيهم مستحيلة، وأن بين الحزن والأمنية رابطا كبيرا، وكأن الحزن يقود الأمنية إلى متاهةٍ في غابة. وهنا يخرج من يرتدي بذلة ورباط عنق، أو من تصبغ شعرها وتضع طلاءً مبالغا فيه على وجهها وتتحدّث العربية، وكأنها قادمة لتوها من بلاد العم سام؛ لتبدو أكثر إقناعا لمن يراها ويسمعها. وهكذا يكون الحديث عن طاقة الجذب، وأن عليك أن تجذب طاقة السعادة والثراء لنفسك، بقولك ومن خلال لسانك وما تتفوه به، ويستشهدون بمقولة تفاءلوا بالخير تجدوه، وبمقولةٍ أخرى، وهي كل متوقع آت. وهكذا فأم الأسير كريم يونس الذي أمضى أربعين عاما في السجن كانت خائفة، ولم تتوقف عن ترديد مقولة "خايفة يمّا أموت قبل ما تطلع من السجن".
أودعت هذه الأم أمنيتها بالخوف، وألبستها ثوب اليأس. وهكذا رحلت وكأن هناك من يقول لها إنك أخطأتِ حساباتكِ، يا أم أقدم الأسرى، وكان عليك أن تردّدي دوما "نفسي يمّا أعيش حتى تطلع من السجن"، وما بين القول والأمنيتين فرقٌ كبير، وما بين النظرية وتفسيرها سذاجة، ولكن ما عليك أن تفعل، يا قلب الأم، أمام سطوة السجّان وجبروت السجن وقضبانه البعيدة الصلبة العنيدة التي تقتل بداخل قلب كل أم كل أمنيةٍ، وتجعل الأمل لا يزيد عن إبرةٍ في كومة قش. ولذلك لم تكن تلك الأم الراحلة قبل أيام تفعل شيئا سوى أن تصبح مؤمنةً بأن السجن الذي طال سوف يكون أقوى من صبرها وانتظارها ولهفتها. وعلينا ألا نتحدّث في تحليل كلماتها البسيطة الموجعة البريئة عن طاقة الجذب، ونترك الحديث عن طاقة الجذب لأولئك المترفين الذين يتساءلون ليل نهار كيف يجذبون طاقة الثراء لأنفسهم، وكيف يجذبون طاقة السفر، إلى آخر تلك التساؤلات التي لا تصل إلى مستوى أمنيةٍ بسيطةٍ لأم عاديةٍ نال منها العمر وطرز الدمع وجهها المجعّد، وتركها السجن والسجّان سجينة كلمة تطفئ نار الأمل بداخلها يوما بعد يوم.
لطاقة الجذب مصادفاتها التي تجعل منها مصدرا لترويج بضاعةٍ متواضعة الجودة، وطرح المصادفات يزيد من تصديق الناس وجود هذه الطاقة فعلا، وبعض المقولات تؤيدها، ومثال عابر على ذلك ما جرى تداوله أخيرا عن قصة عامل نظافة سعودي وقف طويلا أمام واجهة محلٍّ لبيع المجوهرات الثمينة، ووقعت عيناه على قطعة حليٍ باهظة الثمن، فصوّره مراهقٌ أخرق ونشر صورته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، معلقا بعبارة "إنت فيك تناظر القمامة"، فما كان من أحد المتابعين إلا أن بحث عن هذا العامل، وقدّم له القطعة هدية.
وهنا صفق مروّجو بضاعتهم حول طاقة الجذب، وروّجت تلك التي تصبغ شعرها وتضع طلاء مبالغا فيه على وجهها، وتتحدّث العربية وكأنها قادمة لتوها من بلاد العم سام لطاقة الجذب، وأن علينا أن نقف طويلا أمام أمنياتنا البعيدة، ونصنع لها رموزا أمام أعيننا لكي نجذبها، مثل أن نضع حقيبة السفر في غرفة النوم إن كنا ننوي السفر، وأن تضع الفتاة التي تحلم بفارس أحلامها دميةً لعروسين بجوار سريرها، وأن تبحث عن الدمى المزدوجة التي تعبّر عن الشراكة، وليس الدمى المفردة التي تشير إلى الوحدة. لكن، ومؤكّد أن كل هذه النصائح التي تنظّم لها الدورات والشروحات لا تجدي نفعا، ولا تجد لها طريقا، بل تتبخّر أمام سطوة السجن وبرودة زنازينه الذي يحرم أما من ابنها أربعين عاما حتى وصلت إلى القبر.