أميركا والشرق الأوسط... بلا عنوان
في مقالته الطويلة المهمّة "هل الولايات المتحدة قادمة أم راحلة: التناقضات الاستراتيجية والتكتيكية لمقاربة أميركا في الشرق الأوسط" (المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع، الصادرة عن معهد السياسة والمجتمع"، يضع أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، ناثان براون، يده على جوهر الأزمة الأميركية في المنطقة، التي يمكن أن تتمثل باختصار بعدم وجود استراتيجية واضحة متوافق عليها خلال الرؤساء الأميركيين الأخيرين (بوش الابن، أوباما، ترامب، بايدن). فمن الواضح، وفقاً لبراون، أنّ هنالك ارتباكاً كبيراً في تعريف السياسة الأميركية في المنطقة، ما يجعل أميركا نفسها عاملاً مُربكاً أيضاً في السياسات الشرق أوسطية.
يؤطّر براون الأزمة أو التناقض في المصالح الأميركية الحالية بعد 7 أكتوبر على النحو الآتي: هي ملتزمة بالقيادة، وفي الوقت نفسه، تقليص حجم التدخل، وبعلاقات تاريخية وثيقة مع إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية، وبأمن إسرائيلي بشروط غير محدودة وبالحقوق الفلسطينية، العمل الأحادي والتنسيق متعدّد الأطراف، وإطلاق الأسرى الإسرائيليين وتدمير حركة حماس والدولة الفلسطينية، وتمويل خليجي لإعادة إعمار غزّة، وعلاقات دبلوماسية كاملة مع العرب وإسرائيل. وفي هذه الحالة، لو تحققت الرؤية السابقة كاملة، فإنّ أميركا قد تكون فازت باليانصيب الدبلوماسي، على حد تعبير براون، لكنه يستدرك بأنّ "النتيجة على الأغلب ستكون شعباً فلسطينياً مستنزفاً ومصدوماً ويشعر بالمرارة، وانقساماً في القيادة الإسرائيلية وجناحاً يمينيّاً يرى فرصة تاريخية لتحقيق أهدافه بطرد الفلسطينيين، وشعوراً عميقاً في الإقليمي بأنّ الولايات المتحدة دعمت حرباً مدمّرة".
يختم براون مقالته بالقول: "على المدى الطويل، لم تعد الولايات المتحدة تطمح في المنطقة لأفكار عظيمة، بل تسعى، بدلاً من ذلك، إلى تحقيق مصالح محدودة، وحضور أمني محدود، ونشيطة دبلوماسياً من دون أن تكون مهيمنة".
من المهم قراءة ما وصل إليه براون من نتائج فيما بعد 7 أكتوبر، إذ يعزّز القناعة التي ترى أنّ هنالك غياباً كاملاً لتصور استراتيجي واقعي أميركي لمستقبل المنطقة، لمن لا يزالون يراهنون على الحكمة أو القيادة أو الهيمنة الأميركية حتى، فهنالك عجزٌ عن اجتراح رؤية، فضلاً عن تنفيذها، وقد تبدّى هذا واضحاً في الفجوات الكبيرة في التصوّرات الأميركية تجاه المنطقة، منذ ربع قرن، ما بين أحلام المحافظين الجدد بإقامة الديمقراطية (ادّعاءً) في العراق، وتحرير المنطقة من الدكتاتورية، بعد 11 سبتمبر، كما أعلن وزير الخارجية الأميركية السابق، كولن باول، في مبادرته "نحو توسيع الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي"، التي لم تلبث أن سقطت في العراق نفسه. ولمّا جاءت رياح التغيير "من الداخل" في الربيع العربي 2011 ارتبكت إدارة أوباما في التعامل معها، ما بين المراقبة، ثم محاولة ركوب الموجة، والتراجع، وصولاً إلى مقالة "عقيدة أوباما" للصحافي جيفري غولد بيرغ في مجلة أتلانتيك (2016)، وعبّر فيها الرئيس الأميركي في حينه عن تحفظ شديد في سياسة الولايات المتحدة تجاه الانخراط في مشكلات العالم العربي، والأسباب التي دعت إلى توقيع الاتفاق النووي مع إيران، والخلافات مع النظم العربية الحليفة لأميركا (بخاصة السعودية) في تلك المرحلة، وقد لُخّصت استراتيجية أوباما الخارجية عموماً بمبدأ "القيادة من الخلف".
جاءت إدارة ترامب بعدوانيةٍ أكثر تجاه المنطقة، وبمحاولة إحداث عملية قيسرية في التسوية السلمية، من خلال صفقة القرن، ثم نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ومفهوم السلام الإقليمي، الذي آل إلى الاتفاقيات الإبراهيمية. بينما جاءت إدارة بايدن وهي لا تحمل أي تصوّر استراتيجي للتسوية السلمية، وتعطي الأولوية لقضية الصين، ثم لحرب أوكرانيا، وتسعى لتطبيع سعودي إسرائيلي، من خلال اتفاقية مع أميركا، قبل أن تستجدّ أحداث طوفان الاٌقصى وتقلب الطاولة على الجميع!
عادت الإدارة الأميركية إلى محاولة تركيب مصالحها مرّة أخرى وتفقد الدفاتر القديمة والجديدة، للبحث عن تصوّرات للمرحلة المقبلة، ولاستئناف التسوية السلمية، من دون أن تمتلك إجابات واضحة عن المعضلات التي وقعت فيها كل الإدارات السابقة، ومن دون أن يكون واضحاً ما إذا كانت تسعى لمراجعات سياساتها الشرق أوسطية بصورة كبيرة، أو تحاول، كما ذكر براون، وضع أهداف تكتيكية محدودة يمكن تحقيقها من دون محاولات الهيمنة.