أنتوني بلينكن: بائع البوشار
"كلاب من قشّ"، اسم فيلم هوليوودي، نمطي، نُسجت على غرار حبكته ومنوال عُقدته مئات الأفلام، فحكايات السينما وحبكاتها معدودة عدّاً، وكان الكاتب جورج بولتي قد صنفها في 36 حبكة، أولها حبكة المستغيث المحاصر، وسمّاها "حبكة المتوسل".
حبكة "كلاب من قشّ" حكاية حصار عصبة من الأشرار بيتاً معزولاً ليس فيه سوى امرأة وحيدة حسناء (والحُسن مكرّم)، اعتزلت في عطلة الصيف، قد تتحوّل عصبة الأشرار إلى أشباح، أو كائن أسطوري، أو وحش، أو مجرم منبوذ قرّر أن ينتقم لنبذته.
وقد يكون المحاصر امرأة وحيدة مع طفلها، وقد تكون صمّاء، وقد يكون رجلاً أعمى، فذلك أبلغ في الإثارة والتشويق، وتلك هي "الدراما"، وزيادة في دفع الدراما إلى أقصاها (ترجمتي الدراما المحنة)، يجترح الأشرار الفظائع ويقترفون القبائح، ويرتكبون المخازي، لكن المرأة تفلح في استنقاذ حياتها، بمساعدة بطلٍ مساعد، فلا بد من بطلٍ ثانٍ، ولا بد من نهاية سعيدة، النهاية السعيدة تعبيرٌ عن الجنّة والخاتمة الفردوسية، وهي، في معظم الأفلام، قبلةٌ بين العاشقين، ونهاية المجرم.
تتغلّب المرأة بأسلحة منزلية، مثل كهربة حديد النافذة، أو استعمال الماء المغلي، أو نصب فخاج الطرائد، فتقضي على الأشرار أو تستدرج الوحش إلى المصيدة، والوحش، مهما بلغت قوته، لا يخلو من نقطة ضعف. ولكن لم يقع قط في أيٍّ من أفلام الحصار والتشويق أن يغتصب الأشرار رجلاً، الفيلم الوحيد الذي ضحّت فيه امرأة بشرفها سدى من أجل عصابتها كان "الأجنبي" لجاكي شان. تظهر السيدة غضبها كون الخصم الذي كلفت بسرقة أسراره كان مثليًاً! وقد اغتصب الإسرائيليون معتقلين نكاية وتشفّياً وإيلاماً، بل وأفتوا في برلمان "ملكة جمال الديمقراطية في الشرق الأوسط" بجواز اغتصاب الذكور! ونكلوا بالمحاصرين في غزّة تنكيلاً لم نره سوى في أفلام الرعب، ولم نسمع به في قصص التاريخ المسموعة والمغتصبة من الخيال، سوى في محاكم التفتيش الإسبانية قديماً، وفروع الأمن السورية حديثاً، وكنت سأضيف إليها غوانتانمو، لكن سِنة أدركتني.
كان المشاهدون قديماً، في أيام السينما الذهبية يصفقون للبطل المنقذ، وهو يظهر في اللحظة المناسبة تبلغه استغاثة المحاصرة، فيأتي "ملاك الربّ"، لكن المحاصرين في غزّة معزولون عن أهلهم وجيرانهم، يستغيثون ويتوسّلون ويستنجدون، ولا مروءة لمن تنادي، بل عجز خمسون فتوة عربيا، اجتمعوا في القمّة غير العادية (الخارقة) عن غوث المحاصرين سوى بصبّ القهوة للنشامى و"زادوها هيل"، أو دعوة إلى إدخال المؤن، حتى أطلق عليها صحافيون اسم قمّة الفناجين، وسمّاها بعضُهم قمّة جينيفر لوبيز، ليتهم نجحوا في استنقاذ صحافيين مُصابين محميين بقوانين دولية، وأخرجوهم للاستبراء والاستشفاء.
مضت أربعمائة وعشرة أيام، ونحن نشاهد هذا الفيلم الطويل، والأشرار يذبحون المحاصرين ويقتلون وينكّلون، ويدمّرون المساجد والمدارس والمستوصفات، ونحن ننتظر أن يأتي البطل المساعد، الذي قد يُختزل إلى ذخيرة وبنادق في قصة روبنسون كروز (آدم الاستعمار)، وكرة في النسخة الثانية من روبنسون كروز (توم هانكس في كاست أوي)، لا بد من بطلٍ مساعد، وقد يكون حيواناً، وإنَّ الخيول والكلاب والهررة تُقتل في غزّة أيضاً.
تأخّر البطل، والمرأة المحاصرة تنتظر، وتهرب من غرفةٍ إلى غرفة، ولا معين سوى مظاهراتٍ في بلاد بعيدة، والعمدة والقاضي والشرطة والمحلفون الدجّالون يؤازرون وحش الله المختار الذي هبط علينا من كوكب "كريبتون"، كوكب سوبرمان.
يحضُر قائد الشرطة، فيحكم بقتل المحاصرين، لأن بينهم إرهابيون، ويوصي بإطعامهم قبل قتلهم، ويحكم القاضي (المحكمة الدولية) لهم، لكن بلا نفاذ. يظهر بلينكن، بائع البوشار الحزين، والبوشار طعام نظّارة السينما وتسليتهم، ويُباع في أوعية ورقية كبيرة، ويبرُز الأخ الشقيق الذي يسدُّ النوافذ على غزّة خوفاً من هرب المحاصرين إلى دياره التي زيّنها بالجسور وناطحات السحاب. يملُّ المشاهد الأسير، الموثق بسلاسل هاتفه، فيهرُب من عجزه بمشاهدة البشر الذين يطيرون مثل حبّات البوشار تحت النار، إلى آلاف الأفلام القصيرة في التيك توك، أو اليوتيوب، أو غيرها من منصّات العرض الممتعة.
وبما أننا خلُصنا إلى أن بلينكن بائع بوشار في هذا العرض الطويل، فبايدن هو البطل المساعد للفيليان الهمام نتيناهو، ونحن البوشار.