أنت بعثي ولاه حقير؟
يقتضي العدل، عندنا، إذا أساء إلينا شخصٌ ما، أن نتركَه بحاله، ونَسُبَّ أُمَّه، من دون أن نسأل أنفسنا عن السبب الذي يجعلنا نعتدي على تلك المرأة المسكينة التي ربما تكون الآن عجوزاً مريضة، أو مدفونة تحت التراب. وفي أحيان أخرى، نسبّ أخته، أو ابنته، أو ما إلى ذلك من محارمه.
بالقياس على هذا، أقول: مضى علينا ردح من الزمن، ونحن نترك مَنْ يعتدي علينا جانباً، ونوجه لومنا وسبابنا نحو أشخاصٍ وكيانات ومفاهيم لا علاقة لها بالموضوع ألبتة.. فطوال العقود التي تَحَكَّمَ فيها حزبُ البعث، ثم طغمةُ الحركة التصحيحية، برقاب الناس في سورية؛ كنا نتجنب الحديث عن الفساد، والمحسوبيات، والرشى، وإثراء المسؤولين بلا سبب، ونمتنع عن إجراء أية مراجعة لواقعنا، ودستورنا، وقوانيننا، وأنظمتنا، ونأخذ راحتنا في لعن سنسفيل الاستعمار، والصهيونية، والإمبريالية، والرجعية. وأمتلك من الجرأة لأن أقسم أن السواد الأعظم منا لا يعرف الكثير عن المفاهيم التي كان يلومُها ويلعنُها.
ولأننا قوم مولعون بالتطوير والتحديث، فقد تمكنَّا من إيجاد مصطلحاتٍ جديدة، لِنَسُبَّ عليها، بدلاً من تلك التي عفا عليها الزمان، فجماعة نظام الأسد، بعد أن افتُضِحَ أمر علاقتهم الوطيدة بالاستعمار الإيراني، وطلبهم الرسمي، العلني، من الروس غزو سورية، وإعلانهم، في وقت مبكر من الثورة، على لسان البعبع الاقتصادي، رامي مخلوف، أن أمن سورية مِنْ أمن إسرائيل، وأن على الدول (الإمبريالية) الملتزمة بالحفاظ على أمن إسرائيل أن تنتبه إلى هذه المعادلة؛ ما عاد ممكناً أن يُلقوا بتبعات إخفاقهم السياسي على حلفائهم الاستعماريين والإمبرياليين والصهاينة، واستبدلوها، جميعاً، بمصطلح الإرهاب! وأصبح مَن يُراقبُ المحطات الإخبارية يضحك ملء فيه، حينما يرى المحللين السياسيين الاستراتيجيين الموالين للنظام يجلسون في أستوديوهات الأخبار، متربصين أي سؤال يُوَجَّهُ إليهم ليقولوا: إرهاب.. إرهاب. فإذا قالت مذيعة ما لأحدهم (مرحبا)، ينط مثل القاعد فوق زنبرك نابض، ويقول: شعبنا يعاني من الإرهاب والإرهابيين. وإذا قال مذيع آخر لمحلل استراتيجي لبناني مؤيد للأسد (كيف صحتك؟) فإنه يهيئُ نفسه فوراً لإرضاء الأسد وزعيم (المَؤَاومة) حسن نصر الله في آن معاً، ويجري تعديلاً على كلمة الإرهابيين، ليجعلها التكفيريين.
كنا نسهر في بيت أحد الأصدقاء، حينما بدأ الغزو الروسي لسورية، وإذا بأحد الحاضرين يقول لنا إن هذا متوقع من الروس، لأنهم قوم حقيرون، فاسقون، يتزوجون من محارمهم، والعياذ بالله. فرد عليه أحدهم بأن هناك أسباباً سياسية وعسكرية ودولية وإقليمية، بالغة التعقيد، هي التي دفعتهم إلى غزو بلادنا، وبذريعة الإرهاب نفسها. فرد عليه ثالث، وهو طبيب متخرج من روسيا، أقام فيها سبع سنوات، قائلاً للأول إن كلامه كله غلط، وبضمن ذلك فكرة زواج المحارم، فالروسي متشدد أكثر منا نحن في هذا الموضوع، إلى درجة أنه لا يتزوج من بنات عمه، أو عمته، أو خاله، أو خالته، لأنه يعتبرهنَّ من المحارم.
وفي جلسة عقدت في بهو فندق صغير في مدينة عنتاب التركية، حيث كان يجري التحضير لتأسيس حزب سياسي على أساس مذهبي، استعرض أحدُ الحاضرين ثقافته الموسوعية، وحكى عن مواقفه المشرّفة في السياسة والنضال، وحينما رد عليه أحدُهم بأن هذا (الاستعراض) لا يتناسب مع الموضوع المطروح، غضب منه، وقال له: أنت تمارس عليَّ القمع، أنت متشرب بفكر حزب البعث.
ذكّرتني عبارتُه هذه بسلوك المحققين، في عهد بيت الأسد الذين يبادئون المعتقل بعبارة: أنت إخوانجي ولا حقير؟ أو: أنت بعثي عراقي ولاه كر؟
كنت حاضراً، وخطر لي أن أوضح للرجل أن حزب البعث، على الرغم من كل حقاراته، لم يكن يسمح بتأسيس أحزاب على أساس مذهبي، مثلما تفعل حضرتك. ولكنني خفت أن يقول لي على طريقة محققي البعث: أنت بعثي ولا حقير؟ .. فسكتُّ.