أن تخيب توقّعاتنا نحن الإعلاميين
أتذكُّره ذلك المساء في يونيو/ حزيران 1996، لمّا كلفني مدير التحرير (رحمه الله) بكتابة افتتاحية الصحيفة، بشأن فوز شيمون بيريز برئاسة حكومة إسرائيل في انتخاباتٍ لم تكن قد انتهت تماماً، وكانت النتائج الأولية لها والمؤشّرات المسبقة تُعطي "حسْماً" لهذا الفوز. ولكن ما جرى، ثم أفقنا صباحاً عليه، أن شخصاً كان قد تزّعم حزب الليلكود قبل نحو عامَين، اسمُه نتنياهو، هو من فاز، فصار رئيساً للحكومة. لم تكن الهواتف النقّالة، ولا مواقع التواصل الاجتماعي، ولا كانت قناة الجزيرة (أُطلقت بعد شهور). مثّلت تلك الواقعة ما يشبه درساً، عنوانُه أن نحترس، نحن الصحفيين، من الانشغال بتوقّعاتٍ تتعلق بحدثٍ مستجدٍّ أو طارئٍ أو سيّار، بل أن نحذَرَ من بناء سيناريوهاتٍ ستمضي إليها وقائع متتابعة. ولكن ما يحدُث أنّنا (نحن الصحفيين وأهل الإعلام) يُغرينا أن نُخبر الناس بما سيحدُث، بالذي نعرفُه ولا يعرفه الجمهور العام، فيما شغلُنا الأساس، والمركزي، أن نأتي للناس بالأنباء التي جرَت ووقعت، وبالتعليق عليها وإضاءتها. يُغرينا أن نقول على الشاشات، وأن نكتُب، عمّا سيكون، وعن الذي سيفوز في انتخاباتٍ تجري الأسبوع المقبل، ونتوقّع من سيفوزُ في انتخاباتٍ أميركيةٍ بعد شهور. وإذا "زبَط" الحال، وحدَثَ ما قلناه أو رجّحناه، قد نزهو بهذا، ونستعرض قدراتِنا على الاستكشاف وقراءة المستجدّات. وحتى لا يظنَّ واحدٌ أنّنا منجّمون، ونُزجي الكلام على عواهنه، نوضح أن هذا غير صحيح، فنحن نبني قراءاتنا وتوقّعاتنا بناءً على معطياتٍ قائمة واستطلاعات رأي وازنة. وعندما لا "يزبُط" ما نأتي به لا نعتذر أو نصارح جمهورنا بأننا أخطأنا، وبأن هذه أسبابُنا في هذا.
شبه الإجماع الواسع الذي كنّا عليه، نحن الصحافيين مع غيرنا في أوساطٍ سياسيةٍ واسعة، بشأن انتخابات الجمعية العامة (البرلمان) في فرنسا، أن "التجمّع الوطني"، عنوان اليمين المتطرّف في البلاد، سيتصدّر نتائج هذه الانتخابات، وإنْ لن يحقّق الأغلبية المطلقة، لكنه سيتمكّن، مع حلفائه، من تشكيل الحكومة ورئاستها. زوّدتنا بهذا التوقّع الذي أطنبْنا في إشاعته، والنشر عنه، أخباراً وتقارير وتحليلات، أولاً نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الشهر الماضي، والتي أحرَز فيها اليمين الفرنسي (وأمثالُه في غير بلد) نتائج "مخيفة"، ما جعل الرئيس ماكرون يُسارع إلى حلّ البرلمان والدعوة إلى الانتخابات المبكّرة التي كانت توقّعاتنا لها أن تتنهي إلى صعود رئيس "التجمّع الوطني"، جوردان بارديلا (29 عاما) إلى الحكومة الفرنسية. وثانياً، استطلاعات الرأي المتتابعة التي لم يشذّ أيٌّ منها عن إخطار الجميع بنتيجةٍ كهذه، معطوفاً عليها أن تحالف الجبهة الشعبية الجديدة، اليساري، بزعامة جان لوك ميلانشون، سيكون في المنزلة الثالثة، يسبقُه في الثانية يمين الوسط الذي يمثّله حزب الرئيس ماكرون. وثالثاً، أن نتائج الجولة الأولى أعطت اليمين المتطرّف الصدارة، ما عزّز "صدقيّة" ما أسرفنا في نشره عن توقّعاتٍ "محسومة".
... فاجأنا تحالفُ اليسار أنه من تصدّر نتائج الاقتراع الفرنسي، فخيّبَ ما أنفقنا فيه وقتاً وفيراً عن "خطر" اليمين المتطرّف الذي سيتسلّم دفّة السلطة التنفيذية في بلد الأنوار. لم نتذكّر أن ترامب كان قد فاجأنا لمّا صار رئيساً للولايات المتحدة، وكانت منافسته هيلاري كلينتون تتقدّم عليه في استطلاعات الرأي وتوقّعات الصحافة. ربما ساهم في ثقتنا الزائدة تلك أن التوقّعات المحسومة بشأن انتخابات مجلس العموم البريطاني "زبطت"، عشيّة الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية، فقد كان كلُّ القول إن حزب العمّال سيُحرز فوزاً ساحقاً على حزب المحافظين، وسيتولّى الحكومة ورئاستها منفرداً، وهو ما صار.
بين انتخابات بريطانيا وفرنسا البرلمانيتين، حسم الإيراني الإصلاحي مسعود بزشكيان انتخابات الرئاسة في بلده، بعد صعوده إلى جولة ثانية، هزم في الأولى ثلاثةً كان منهم المرشّح المحافظ المتشدّد، محمد باقر قاليباف، والذي ذاع، في أوساطٍ عريضةٍ بيننا، نحن الإعلاميين، أنه المرجّح رئيساً. ولم يكن بزشكيان بين من تداولت فيهم تخميناتُنا بشأن الجولتيْن، سيّما أن حملة الرجل الانتخابية كانت باهتة نوعاً ما، وسيّما أيضاً أنه بالكاد سُمح له بالترشّح.
ماذا لو تخفّفنا، نحن أهل الصحافة والإعلام، من قصة السيناريوهات والتوقّعات، وانشغلنا بشغلنا الأساس. وإذا أغرتنا تلك القصة فلنا أن "نتشاطر" بشأن انتخابات موريتانيا، فقد فاز الرئيس الذي حسمنا نتيجته سلفاً، وبشأن أي انتخابات عربية مثيلة لها، سابقة ولاحقة.