"أولاد بديعة" والواقعية الخشنة
حقّق المسلسل الرمضاني السوري، "أولاد بديعة"، إقبالا جماهيريا واسعا، واحتلّ حتى تاريخه المرتبة الأولى، من حيث نسب المشاهدات، بحسب إحصائيات تجريها تطبيقات متخصّصة. العمل من إخراج رشا شربتجي، وتأليف يامن الحجلي وعلي وجيه، وبطولة سلافة معمار، محمود نصر، سامر إسماعيل، يامن الحجلي. وهو دراما اجتماعية شائقة تتناول صراعا داميا بين أربعة إخوة لعائلة تعمل في صناعة الجلود والدباغة. وقد أبدعت شربتجي في تحويل النص المحبوك الممسوك ببراعة إلى فرجة درامية مكتملة العناصر الفنية مبهرة شائقة مثيرة تحبس الأنفاس، من حيث دقة اختيار مواقع التصوير التي اقتربت مواصفاتها من الواقع بكل تفاصيله. وبرعت في التنقل بين الأزمنة والأمكنة بخفّة ورشاقة، من دون أن تؤثر على الخط الزمني للحكاية الذي يمتد منذ الثمانينيات إلى وقتنا الحاضر. انعكس ذلك جليّاً من خلال تصاميم الأزياء وقصّات الشعر وأسلوب المكياج وديكورات المنازل وماركات السيارات وأنواع الموسيقى والغناء ولغة الحوار وكل العناصر الفنية التي تعبّر عن ملامح كل مرحلة وكل مكان، سواء كان ملهى أو شارعا أو مسجدا أو موقع عمل. كما أبدع فريق التمثيل المتمكّن من أدواته في ترجمة رؤية المخرجة من خلال أداء درامي شديد الإقناع رفيع المستوى، قادر على توريط المشاهد في أدقّ التفاصيل.
لعلّ سحر النص يكمن في تحرّره من الشكل التقليدي المتعارف عليه عربيا للصراع المملّ والرتيب والمتوقع بين الخير والشر، حيث ينحاز المشاهد إلى الخير الذي ينتصر في النهاية، فتلاعب النصّ بالمشاعر، حين حمل صفات الشخصيات الرئيسية ثنائية الخير والشر في كشف صادق للطبيعة البشرية التي تحتوي المتناقضات من خلال التأكيد على مقولة "لا يوجد شر مطلق وخير مطلق"، فالنفس البشرية أكثر تركيبا وتعقيدا من التصنيف الساذج والمريح الذي يعتمده كثيرون من صنّاع الدراما، ما جعل المتلقي عاجزا عن اتخاذ موقفٍ نهائيٍّ من الشخصيات المتصارعة المتأرجحة بين الأضداد سريعة التحوّل بحسب المواقف الدرامية المكتوبة باعتناء شديد.
ولأن العمل ينتمي إلى ما يمكن تسميتها بالواقعية الخشنة، فقد تضمّن مشاهد كثيرة عنيفة صادمة، مثل مشهد إعدام القطط، وكذلك بالألفاظ السوقية التي تفرضها طبيعة البيئة الشعبية التي يجسّدها النص، فقد تعرض العمل لكثير من الانتقاد، واعتبره بعضهم غير ملائم للعرض في شهر رمضان، رغم التنبيه المسبق الذي يوضح أن تصوير مشاهد قتل الحيوانات تم بإشراف طبّي متخصّص، لكن ذلك لم يشفع له، وذهب آخرون إلى أنه كان ينبغي أن يصنّف العمل للمشاهدين فوق 18 عاماً، لأنه غير مناسب للأطفال. وفي هذا الرأي كثيرٌ من الوجاهة، وهذا ما فات القائمين على المسلسل، ليس فقط بسبب المشاهد الجنسية الفجّة، بل أيضاً بسبب لغة الحوار والعنف الزائد عن حدّه في بعض المشاهد، مثل مشاهد حرق بديعة حية، وضرب مختار ضربا مبرّحا، وقتل مجموعة من الشباب صعقاً بالكهرباء فيما هم يسبحون داخل بركة، وتقطيع جثّة صديق مختار، إضافة إلى مشاهد التنمّر على مختار طفلا من إخوته، ما أدّى إلى اضطراب حالته النفسية، وتنامي المشاعر العدوانية والغضب والكراهية تجاه إخوته الأشقياء.
أياً كان الأمر، ورغم هذه الهنات التي اعترت العمل، يبقى مسلسل "أولاد بديعة" علامة فارقة في الدراما السورية، من حيث الإخراج القوي الذي يصل إلى حد العالمية، ومن حيث النص المتماسك، ومن حيث مستوى التمثيل المدهش. نأمل أن يحافظ هذا العمل على ألقه وتوهّجه وتميّزه واحترامه ذائقة المتلقّي في الحلقات المتبقّية، وأن لا يعتريه الترهّل والمطّ والإطالة وفائض الثرثرة، وهذه كلها مقتل أي فعل فني بالضرورة.