أيّ دورٍ قادم للأردن في المنطقة؟
ثمّة مخاوف لا يواريها عديدون من السياسيين الأردنيين المقرّبين من مواقع صنع القرار من أن يُحسب الأردن من ضمن الأطراف أو القوى الخاسرة بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، ويشبه هذ التيار الوضع القادم بالعزلة التي عانى منها الأردن بعد حرب الخليج في العام 1991، عندما رفض دخول القوات الغربية إلى الخليج، فتعرّض للتضييق والحصار، ما فرض عليه لاحقاً الذهاب إلى مؤتمر مدريد للسلام 1991، نوعاً من كسر العزلة المفروضة، عربياً وأميركياً، وتبديله النخب السياسية الموجودة بنخبٍ أخرى أكثر قدرةً على التعامل مع الخيارات الاستراتيجية التالية لتلك الحرب!
من الصعوبة بمكان مسايرة ذلك التيار بالقياس على تلك الظروف التاريخية، لكن ذلك لا ينفي أنّ هنالك بالفعل مخاوف من العزلة أو عملية تحجيم الدور الأردني في المرحلة المقبلة، بخاصة بعد التصعيد الديبلوماسي الأردني الملحوظ في مواجهة العدوان الإسرائيلي في الفترة الماضية، ورفضه خططاً أميركية - إسرائيلية - عربية عديدة متعلقة بالتطبيع الإقليمي والانتقال إلى مرحلة يتم فيها ترصيص التحالف العربي - الإسرائيلي، حتى لو لم يتم تقديم حلول منطقية للقضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي يطالب به الأردن، بوصفه شرطاً أساسياً لأي عملية سلام إقليمي قادمة.
ثمة حقيقتان رئيسيتان تساهمان في شرعنة المخاوف الأردنية: الأولى، أنّه سواء كان هنالك تحريك للعملية السلمية أم لا، بخاصة بعد أن أُعيد موضوع حلّ الدولتين إلى الطاولة، بعد أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فإنّ ما هو متوافق عليه أنّ فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، ذات السيادة، والحدود، وعاصمتها القدس الشرقية، لم يعد خياراً لدى السياسيين الأميركيين، ولم يعد مطروحاً في الأوساط المتحمسة للتوقيع عربياً! وبالتالي، ما يمكن أن يُطرح أو لا يُطرح على الفلسطينيين لا يتجاوز سيناريو "غوام وبورتريكو" (كما يؤكد كل من ناثان براون وفلاديمير براون في مقالتهما "اليوم التالي" العسير في غزّة، على موقع معهد كارنيجي للسلام)، ولا يهم عند ذلك، سواء كان القادم للبيت الأبيض في الانتخابات المقبلة هو الرئيس السابق دونالد ترامب أم بقي الختيار المرهق جو بايدن، لأنّ النتيجة أنّ تحريك السلام والتسوية لن يؤدّي إلّا إلى كيان مسخ سياسياً، وربما لمرحلة مؤقتة، قبل أن تجري محاولة إلحاقه في مرحلة تالية بالأردن.
مسألة تبديل التحالفات والرهانات الأردنية، أي الانخراط في مشروعات مقاومة أو ممانعة والتحالف مع الطرف الآخر غير مطروحة لدى "مطبخ القرار" في عمّان
الحقيقة الثانية، أنّه أيّاً كانت الحصّة التي ستحصل عليها القضية الفلسطينية من التسوية الإقليمية ومشروعات التطبيع القائمة والقادمة، وأيا كان مصير قطاع غزّة بعد الحرب، فإنّ هنالك مخطّطات وأفكاراً وترتيبات بدأت بالفعل، وستنبثق واقعياً بمجرّد بدء ما تسمّى أعمال اليوم التالي، التي ستقوم على بناء نظام إقليمي يدمج إسرائيل في المنطقة، ضمن مفاهيم ومشروعات طموحة اقتصادياً وأمنياً، وتتحدّث مراكز التفكير والأوساط السياسية في واشنطن عن أهمية إعطاء السعودية الدور الأكبر والأهم بين الدول العربية في تشكيل النظام الإقليمي الجديد.
في ضوء هذه الاعتبارات، ستكون السيناريوهات الرئيسية للمرحلة المقبلة إقليمياً، والمتوقّع أن تنبثق مع اليوم التالي للحرب على غزة، ستكون على النحو التالي: السيناريو الأول، بقاء الوضع القائم، بمعنى حالة من الفوضى الإقليمية (الأناركية)، وعدم وجود قواعد محدّدة للصراع والردع، وبقاء حالة التوتر العسكري والأمني بين إيران وحلفائها من جهة وإسرائيل وبعض الدول العربية من جهةٍ أخرى. السيناريو الثاني، تشكيل حالة من توازن القوى من خلال تشكيل تحالف إقليمي علني أو سرّي في مواجهة إيران، برعاية أميركية، مع تطوّر علاقة الدعم والإسناد من روسيا والصين لإيران في المنطقة، وبالتالي يكون الأردن على خطوط التماسّ مع النفوذ الإيراني الممتد إلى الحدود الشمالية الأردنية والحدود الشرقية مع العراق. السيناريو الثالث، انفجار الصراع الإقليمي وتحوّله إلى حالة من الحرب الإقليمية، أو الحروب المجزأة في مناطق عديدة، بالوكالة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وإيران من جهةٍ ثانية.
ما هو التموضع الأردني المتوقّع في ضوء السيناريوهات التالية؟ الخيار الاستراتيجي الأول يتمثل بالحفاظ على التموضع الحالي، بمعنى رفض مخطط إقليمي من دون حلّ القضية الفلسطينية، ورفض أيّ حل للقضية لا يؤدّي إلى دولة مستقلة ذات سيادة، وبالتالي، سيكون الموقف الأردني أقرب إلى العزلة أو الانطواء؛ فمسألة تبديل التحالفات والرهانات الأردنية، أي الانخراط في مشروعات مقاومة أو ممانعة والتحالف مع الطرف الآخر غير مطروحة لدى "مطبخ القرار" في عمّان. من هنا تتبدى مخاوف التيار الذي يحذّر من تراجع الدور الإقليمي الأردني ومن العزلة وضعف المناورة الديبلوماسية.
يسعى اليمين الإسرائيلي إلى ترحيل المشكلة الفلسطينية إلى الأردن، وهو الأمر الذي قد يؤدّي إلى مشكلات داخلية
الخيار الاستراتيجي الثاني هو الانخراط في أيّ أحلاف أو مشروعات قادمة، على قاعدة التطبيع الإقليمي و"الأفكار الإبراهيمية"، ما يعني التخلّي جزئياً عن الموقف من صفقة القرن أو ما يشبهها، والقبول بتذويب القضية الفلسطينية تدريجياً، سواء عبر حل سياسي أو من غيره، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما يشكّل خطراً آخر على الأردن، يتمثّل في أجندة اليمين الإسرائيلي، الذي يسعى إلى ترحيل المشكلة الفلسطينية إلى الأردن، وهو الأمر الذي قد يؤدّي إلى مشكلات داخلية، لكنّه، في المقابل، وفقاً لأنصار هذا الخيار، يضمن حلولاً استراتيجية لمشكلة الأردن الاقتصادية، بخاصة ما يتعلق بالبطالة والاستثمار، ويساعد على تأمين عشرات الآلاف من الفرص للشباب الأردني، وربما إعادة تدفّق المساعدات الخليجية، لكنه يضع الأردن في دور تابع وثانوي في أيّ تحالف أو تشكّل إقليمي على هذه القاعدة.
الخيار الاستراتيجي الثالث مزيج من الخيارين الثاني والأول؛ بمعنى الحفاظ على بعض المواقف الحيادية في السيناريو الأول، ورفض التخلي عن مواقف أساسية في القضية الفلسطينية، والقبول بالانخراط في مشروعات اقتصادية وخدماتية واستثمارية ضمن مشروعات المحور الإقليمي الجديد، والولوج في توافقات والتزامات دفاعية في مواجهة النفوذ الإيراني، أيّاً كان سيناريو العلاقة بين إيران وأميركا ودول المنطقة الأخرى.
بالطبع، ثمة تفصيلات عديدة في كل من السيناريوهات والخيارات الاستراتيجية السابقة، وهنالك في المقابل شعور بتراجع الدور الإقليمي الأردني لدى بعضهم، إلّا أنّ هنالك إشارات ورسائل أخرى تؤكّد على أهمية هذا الدور وبقائه وإنْ بصيغ أخرى، وما يعزّز ذلك حالة الاستقرار والأمن التي يتحصل عليها الأردن في إقليم ملتهب ومليء بالنزاعات والصراعات والأزمات.