25 اغسطس 2024
ابن الفوعة جمال حمدون
بمناسبة رحيل الصديق المهندس جمال حمدون، من بلدة الفوعة، تنتابني مجموعة من الهواجس، يدور معظمُها حول ما تبقى من الشعب السوري، ويدفعني إلى التفكير بأنه لم يبق بيننا، إلا مَنْ رحم رَبُّكَ، مَنْ لم توقعهم رياحُ الاستبداد العاتية أرضاً، وتدحرجهم، ليصبحوا أضحوكةً بين البشر، وأنا مِنْ هؤلاء الواقعين بالطبع، لذا فإنني لن أسوّغ وقوعي، ولن أطالب الذين ضحكوا عليَّ بالاعتذار لي، لأنني، ذات مرة، شاهدتُهم يقعون وضحكتُ عليهم، ولم أعتذر لهم.. كلنا في الهَوَا سَوَا!
أنا، مثلاً، في الأساس، إنسانٌ أقلُّ من عادي، عشتُ في بلدةٍ صغيرةٍ تقع في شمال إدلب، لا يعرف أهلُها أصول التربية الحديثة (أو القديمة)، وعلم النفس، والأدب، والفلسفة.. بلدتي، كغيرها من المدن والبلدان في منطقتنا، تُشَكِّل لابنها، منذ ولادته، كميةً لا يُستهان بها من العقد النفسية، وتُطْلِقُه لوجه الله، فيُمْضِي المسكينُ عمرَه وهو يحاولُ أن يُشفى من عُقده، وقد يشفى من بعضها، لكنها، بطبيعة الحال، ناكسة، تعود إليه، وعلى نحو أسوأ مما كانت عليه قبل الشفاء.
كنتُ معارضاً لنظام الاستبداد، لكنني كنت أتسلح بالخوف، واللباقة، والكياسة، لئلا أقع في براثن المخابرات السورية التي تُعَدُّ من أكثر المخابرات إجراماً في العالم. وبسبب الخوف، لم أنتسب إلى أي تنظيم سياسي معادٍ للنظام، ومع ذلك بقيت العلاقة بيني وبين النظام قائمةً على الحذر، والشكّ، وضباط الأمن الذين كانوا يستدعونني، بين حينٍ وآخر، بناءً على تقارير وإخباريات متنوّعة، يقولون لي بطريقة غير مباشرة: شايفينك، ومنقرا كتاباتك وما تحت سطورها، ومنعرف مع مين بتمشي، والأفضل لك أن تدير بالك على حالك.
الشجاعة الاستثنائية التي اكتسبناها بعد أول مظاهرة شاركنا فيها أوائل 2011 كانت كافيةً لترد إلينا بعضاً من إنسانيتنا المهدورة، لكن شجاعة جمال حمدون كانت أكبر من شجاعتي، على الأقل. كان يأتي برفقة الصديق أحمد عبدو حاج علي ورجال آخرين من الفوعة إلى إدلب، على نحو شبهٍ يومي، ليشاركونا في المظاهرات، والهتاف ضد حكم الأسد الفاشستي. كان صوت جمال أعلى من أصواتنا، وكان بعضُنا يغيب عن لقاءات "تجمّع مثقفي ونقابيي محافظة إدلب" بينما جمال وأحمد لا يغيبان، وكان النظام يضغط على جمال، حتى إن أحدَهم عرض عليه منصباً صغيراً في محافظة إدلب، لقاء تخلّيه عن الثورة، فقال له: بتعرف أبو منير محمد ناجي عطري وعادل سفر وهدول الموديلات؟ أنا لو بتحطني مكانهم ما بقبل.
بعد خروجي من إدلب في مارس/ آذار 2012، وانضمامي إلى الثورة في معرتمصرين، كان الضغط يزداد على جمال وأحمد بشكل خاص، وكنت أمرُّ بأحمد في أثناء ذهابي إلى الفوعة وبنّش، بمهمة حل النزاع وتبادل المختطفين، وأسأله عن جمال، فيقول لي إن جمال مُحبَط، ممزّق.. وذات مرة، طلبا مني تأمين خبزٍ، لأن شبّيحة النظام كانوا يوزّعون الخبز على مواطني الفوعة باستثناء المعارضين. وحينما غادرتُ سورية في أغسطس/ آب 2012 إلى الريحانية، وجدت الصديقين العزيزين، أحمد وجمال، هناك، وكان الرائد مازن الفواز، صهر جمال، قد انشقّ عن جيش النظام مع خاله جمال، واستشهد في إحدى المعارك.
في الريحانية، كنت ألتقي جمال على نحو شبه يومي، ومرّة حكى لي كيف أنهم غادروا الفوعة إلى بنّش، وأمَّنَ لهم الجيش الحر الحماية، وساعدهم أهالي بنّش على الوصول آمنين إلى تركيا..
بقي جمال على عناده، وكراهيته نظام الاستبداد، حتى بعد أن غادر إلى هولندا مع أسرته. وكان قد امتلأ بالغيظ ضد أهل بلدته. وفي إحدى محادثاتنا، قلت له: علينا أن نفصل بين أهل الفوعة المُشَبِّحين للنظام والأهالي العاديين المغلوبين على أمرهم، بالِعي الموس على الحدّين. أذكر أنه قال لي:
- أنت بالك طويل. أنا ما فيني أكون متلك.
أنا، مثلاً، في الأساس، إنسانٌ أقلُّ من عادي، عشتُ في بلدةٍ صغيرةٍ تقع في شمال إدلب، لا يعرف أهلُها أصول التربية الحديثة (أو القديمة)، وعلم النفس، والأدب، والفلسفة.. بلدتي، كغيرها من المدن والبلدان في منطقتنا، تُشَكِّل لابنها، منذ ولادته، كميةً لا يُستهان بها من العقد النفسية، وتُطْلِقُه لوجه الله، فيُمْضِي المسكينُ عمرَه وهو يحاولُ أن يُشفى من عُقده، وقد يشفى من بعضها، لكنها، بطبيعة الحال، ناكسة، تعود إليه، وعلى نحو أسوأ مما كانت عليه قبل الشفاء.
كنتُ معارضاً لنظام الاستبداد، لكنني كنت أتسلح بالخوف، واللباقة، والكياسة، لئلا أقع في براثن المخابرات السورية التي تُعَدُّ من أكثر المخابرات إجراماً في العالم. وبسبب الخوف، لم أنتسب إلى أي تنظيم سياسي معادٍ للنظام، ومع ذلك بقيت العلاقة بيني وبين النظام قائمةً على الحذر، والشكّ، وضباط الأمن الذين كانوا يستدعونني، بين حينٍ وآخر، بناءً على تقارير وإخباريات متنوّعة، يقولون لي بطريقة غير مباشرة: شايفينك، ومنقرا كتاباتك وما تحت سطورها، ومنعرف مع مين بتمشي، والأفضل لك أن تدير بالك على حالك.
الشجاعة الاستثنائية التي اكتسبناها بعد أول مظاهرة شاركنا فيها أوائل 2011 كانت كافيةً لترد إلينا بعضاً من إنسانيتنا المهدورة، لكن شجاعة جمال حمدون كانت أكبر من شجاعتي، على الأقل. كان يأتي برفقة الصديق أحمد عبدو حاج علي ورجال آخرين من الفوعة إلى إدلب، على نحو شبهٍ يومي، ليشاركونا في المظاهرات، والهتاف ضد حكم الأسد الفاشستي. كان صوت جمال أعلى من أصواتنا، وكان بعضُنا يغيب عن لقاءات "تجمّع مثقفي ونقابيي محافظة إدلب" بينما جمال وأحمد لا يغيبان، وكان النظام يضغط على جمال، حتى إن أحدَهم عرض عليه منصباً صغيراً في محافظة إدلب، لقاء تخلّيه عن الثورة، فقال له: بتعرف أبو منير محمد ناجي عطري وعادل سفر وهدول الموديلات؟ أنا لو بتحطني مكانهم ما بقبل.
بعد خروجي من إدلب في مارس/ آذار 2012، وانضمامي إلى الثورة في معرتمصرين، كان الضغط يزداد على جمال وأحمد بشكل خاص، وكنت أمرُّ بأحمد في أثناء ذهابي إلى الفوعة وبنّش، بمهمة حل النزاع وتبادل المختطفين، وأسأله عن جمال، فيقول لي إن جمال مُحبَط، ممزّق.. وذات مرة، طلبا مني تأمين خبزٍ، لأن شبّيحة النظام كانوا يوزّعون الخبز على مواطني الفوعة باستثناء المعارضين. وحينما غادرتُ سورية في أغسطس/ آب 2012 إلى الريحانية، وجدت الصديقين العزيزين، أحمد وجمال، هناك، وكان الرائد مازن الفواز، صهر جمال، قد انشقّ عن جيش النظام مع خاله جمال، واستشهد في إحدى المعارك.
في الريحانية، كنت ألتقي جمال على نحو شبه يومي، ومرّة حكى لي كيف أنهم غادروا الفوعة إلى بنّش، وأمَّنَ لهم الجيش الحر الحماية، وساعدهم أهالي بنّش على الوصول آمنين إلى تركيا..
بقي جمال على عناده، وكراهيته نظام الاستبداد، حتى بعد أن غادر إلى هولندا مع أسرته. وكان قد امتلأ بالغيظ ضد أهل بلدته. وفي إحدى محادثاتنا، قلت له: علينا أن نفصل بين أهل الفوعة المُشَبِّحين للنظام والأهالي العاديين المغلوبين على أمرهم، بالِعي الموس على الحدّين. أذكر أنه قال لي:
- أنت بالك طويل. أنا ما فيني أكون متلك.