اسم أمي
أمام ألمها وضعفها ومرضها خدعتُ نفسي، أو لقلّة حيلتي، فقد كذبت كذبةً على نفسي وصدّقتها، وربما وهذا، أعتقد، أنه الاحتمال الأكبر أنني كنت أعتقد أن الرب لن يخذلني، وكنت أرى نفسي إنسانةً طيبةً بريئة. لم أحاول أن أرتكب ذنبا، لسببٍ وجيهٍ، لصغري وقتها، ولكني أصبحت مستمرّةً على محاولاتي؛ وهي أنني سأصبح قريبةً منه فيعرف ما في قلبي، وما كان في قلبي منذ فتحت عينيّ على الحياة هو أمل ورجاء أن تبقى في حياتي، تلك المرأة، أمي.
ولسببٍ آخر، يبدو أكثر إقناعا كنت أرى أن الربّ يحميها، لأن لها من اسمها نصيبا، فقد كان اسمها "محفوظة". ولذلك فقد سرحتُ كثيرا في اسمها، وكنت أنقل بصري بين جدّي لأمي وبينها، وأكتشف السر بيني وبين نفسي، فهي جميلةٌ ذلك الجمال اللافت المميز، وربما رأى أبوها ذلك، منذ انزلقت من رحم أمها فقرّر أن يسمّيها محفوظة؛ دلالةً على أن الرب سوف يحفظ هذا الجمال، وكان أهل زمان بسطاء إلى درجة خوفهم على صغارهم. وكنت بالمناسبة أرى أذني جدّي مثقوبتين، وقد ضحك حتى بان فراغ فمه من الأسنان، وهو يخبرنا أنه، ولجمال خلقته، فقد خافت عليه أمه من أعين الحاسدات، وأن يمسّه سوءٌ، فثقبت أذنيه ووضعت فيهما قرطا صغيرا، لتشير إلى أن هذا الجمال لبنت، وغالبا لا تتعرّض البنت الجميلة للحسد، مثلما يحدُث للذكر جميل الملامح، أبيض البشرة بحُمرة طاغية، مثلما كان جدي.
وصدّقت أن لأمي من اسمها نصيبا، وأنها مهما مرضت سوف تبقى "محفوظة" من أجلي، ومن أجل إخوتي الصغار، وكلما ألمّت بها نوبة ربو حادّة، وحملناها إلى المشفى. وعلى الرغم من خطورة وضعها وخضوعها للتنفس الصناعي، إلا أنني كنت واثقةً أنها سوف تعود، وسوف أستيقظ في الصباح الباكر على صوت أوانيها بين يديها النحيلتين، تفرك وتدعك لتنال نظافةً غير مسبوقة.
وللطرافة، اعتقدت أن جدّي لأمي قد أخطأ، فقد كان الأجدر أن يسمّي أمي "حافظة"، فهي تحافظ على الأشياء بتقدير امتياز، ولا تفنى ولا تذوب أدواتها ولا حتى ملابسها. وقد جال هذا الخاطر برأسي، وابتسمت وأنا أنقل بصري بينهما، واكتشف الشبه الجميل بينهما، ولكن السنوات مرّت، وكان لا بد من أن ترحل وتتركني لوهمي، وتتركني أيضا لأفيق على حقائق الحياة المرعبة. ووسط كل هذا الوهم، كنت أحب زيارة صويحباتها، واللواتي كن يخبرن بعضهن بعضا، حين أذهب إلى ملتقاهن معا، بأنني "ابنة محفوظة"، وربما يكون سمع إحداهن قد أصبح ضعيفا، فترفع أخرى صوتها، وتردّد اسم أمي، وتبهج قلبي قليلا ثم أغادر.
أحببت اسم أمي، وأحببت كل من كان يناديني به من قرابتها ومن محبّيها، وكنت ولا زلت أستغرب ممن يرون في اسم الأم عورة، مثل المعلمة التي تهدّد تلميذها المشاغب بفضح اسم أمه أمام زملائه. والصبية الذين كثيرا ما أمر بهم يتشاجرون في الحي الذي أقيم فيه، وحين أستفسر عن سبب شجارهم، يردّ أحدهم، وهو مشغول بلكم أنف الآخر بكل إخلاص: لقد ناداني باسم أمي، فيدقّ قلبي وقتها وأردّد بيني وبين نفسي اسمي ملحقا باسم أمي وأمضي.
اليوم، وقد أصبحت في الخمسين من عمري، ألتقي بابنة خالتي التي تكبرُني بعشر سنوات التي استعدت ذكرياتنا المشتركة معها، وأنعشتها حتى وضعت يدي على حقيقة مؤلمة، حين أخبرتني أن اسم أمي كان بناءً على طلب جدّتي ورغبتها، وقد سمّتها لتحمل اسم صديقة لها ماتت في سن صغيرة، فرجعت بظهري إلى الوراء مصدومةً، وأدركت أن جدّي وجدّتي قد اكتشفا وأتقنا لعبة الحياة والموت قبلي بمراحل كثيرة، فلم يحلما بخلود الأحبة مثلاً، ولذلك، أطلقا عليها اسم إنسانة رحلت باكرا، وهكذا أفقت على رحيل أمي الباكر، وحقيقة أن الأمهات يرحلن مهما حاولنا أن نخترع الكذبات، وأن نتضرّع إلى الرب، لكي يطيل أعمارهن، ولكي يبقين نورا في حياتنا. وأمي قد رحلت، لأن هذه هي الحياة.