الأب المظلوم
كلّنا حفظنا، عن ظهر قلب، موعد الاحتفال بيوم الأم في الحادي والعشرين من شهر مارس/ آذار كلّ عام، وكلّنا حفظنا تاريخ وقصة اختيار الاحتفال بهذه المناسبة، لكن تمرّ بنا على استحياء مناسبة يوم الأب، وقلّة من يحتفون بها، قياساً بالمحتفلين بيوم الأم، وكأنّ الأم تقوم بالتحريض الناعم المبطّن على عدم نسيان يومها الذي لا يتكرّر، والذي تحظى فيه بالهدايا والتدليل، وقد تطالب بهديةٍ مؤجّلة في ذلك اليوم من أولادها على سبيل الأمل والرجاء. وهكذا، فالجميع يذكر هذا اليوم المرتبط بتواطؤٍ بديعٍ بحلول فصل الربيع. لكنّ يوم الأب مظلوم، ولا يكتب عنه الكثيرون. ولهذا السبب، تجدون مقالتي متأخرة كثيراً عن يوم الأب، مثلما يتأخّر الترحيب به، حين يعود من عمله، فيما يهرع الصغار إلى الأم حين تعود من الخارج، ولا يتركون لها الفرصة لكي تدير المفتاح في الباب، فهم يحفظون صوت خطوتها، ويترقّبون حضورها بقلوبهم، وإن خرجت فالبيت يبقى مظلماً. وحين يعودون من مدارسهم، يعرجون نحو المطبخ حيث تقف، ليملأوا قلوبهم وبطونهم، فيما يكون الأب المظلوم سبب وجودهم في الحياة، والمنفق والعامل بتعبٍ وجدّ من أجل أن يجني المال، في غرفة المعيشة ممدّداً على أريكةٍ في انتظار أن ينال ما يتبقى من مشاعر، ويكتفي بأن يملأ بطنه بالطعام الذي تتسرّب رائحته من مطبخ الأم.
فاجأنا مسلسل "نجيب زاهي زركش" المقتبس من مسرحية إيطالية، تم تمصيرها وتقديمها عدة مرات وبرؤى مختلفة على المسرح المصري وفي السينما، فيلومينا مارتورانو لإدوارد دي فيليبي. كتب السيناريو والحوار عبد الرحيم كمال، وتأخر الاشارة إلى أنّ قصة المسلسل مستوحاة من المسرحية الإيطالية أيضاً كتأخر الاحتفال بيوم الأب. فاجأنا المسلسل بأنّ الثري، نجيب زاهي زركش، بهذا الثراء الفاحش، وبقصة خيالية عن علاقته مع الخمر والنساء، إلى درجة أنّنا تقبلنا وجود عشيقة ثلاثين عاماً في قصره، ثم يقرّر الزواج بها وهي تحتضر بناء على رغبتها. ومن ثم أيضاً تفجر مفاجأة قبل رحيلها وهي أنّها قد أنجبت ثلاثة أبناء ذكور، أحدهم ابنه. وعليه أن يتعرّف عليه بنفسه، وتتركه في حيرته، بعدما تجاوز السبعين من عمره، وقد قضى حياته غارقاً في ملذّاته، ولم يفكّر أن يعيش دور الأب وينعم بنعمة الأبوة.
كان من الممكن أن تنتهي الأحداث في الحلقات الأولى من خلال تحليل الحمض النووي للأبناء الثلاثة لهذه العشيقة الغريبة، والتأكد بنسبة تكاد تكون مائة بالمائة أنّ أحدهم هو ابن هذا الثري الذي استيقظ فجأةً ليجد أنّه لن ينتهي من هذا العالم حين يموت، بل هناك امتداد له يدبّ على الأرض، لكنّه قرّر أن يتبع حدسَه، ويفكّر ويتأمل الشبان الثلاثة الذين نجحت العشيقة، بمساعدة خادمه الخاص في تعيينهم في شركته، فيحاول أن يكتشف أيّهم هو ابنه من خلال تصرفاتهم وطباعهم، والسمات التي يراها مشتركة بينه وبينهم. لكنّه في كلّ مرة يكتشف أنّ كلّ واحد يحمل واحدةً من خصاله الطيبة أو السيئة. ويقع في حب ثلاثتهم، ويقرّر تأجيل الاطلاع على نتيجة فحص الحمض النووي، لعلّه يعرف ابنه بنفسه، لكنّ ذلك لم يحدُث، مما يجعله يتحمّل هفوات وأخطاء وعقداً نفسية وخصالاً سيئة لثلاثتهم أيضاً.
يكتشف نجيب زاهي زركش، أنّ الأب فعلاً يتحمّل كلّ أخطاء أولاده، وأنّ الطبيعة البشرية لا يمكن منافاتها، فهو بحاجة لابنٍ لا يمكن للمال أن يعوّضه إياه، وبحاجةٍ لكي يعود به الزمن، ويقوم بدور الأب الذي يأتي بالهدايا لأطفاله من لعبٍ وحلوى، وقد يمرّضهم حين تدهمهم الحمّى، ويفرح لنجاحهم في هواياتهم. وهكذا نتأكد أنّ الأب ذلك المظلوم هو مركز ثقل حياة الأبناء، وقد يأتي أعداء ناموس الحياة ليختطفوه من بينهم، غصباً عنه وعنهم، ليس لأنّه قد عاد من عمله متأبطاً بطّيخة، بل لأنّه حلم بحياةٍ كريمة لهم في أوطانهم.