الأردن والابتعاد عن "لعبة الهويات"
طفت على السطح في الأشهر القليلة الماضية نقاشات واتجاهات عُصابية غير مبرّرة لن تأتي إلّا بثمار ضارّة على المعادلة الداخلية الأردنية، بخاصة عندما يصبح تصنيف المواطنين والناس على قاعدة "الهويّات الفرعية" الداخلية، ويجري توظيف قصة الهوية في عملية تراشق عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتوزيع الاتهامات والتخوين هنا أو هناك من الأطراف المختلفة.
لا يمكن تجاهل التعدّد والتنوع في وجهات النظر تجاه قضايا عديدة متعلقة بالحرب على غزّة والموقف الأردني، لكنها تبقى (بالمناسبة) خلافات جزئية بسيطة، فلا يوجد في النقاش العام الأردني من يؤيد العدوان الإسرائيلي أو لا يتعاطف مع أهل غزّة، فهذا شعور جمعي وطني يصل إلى درجة الإجماع الكامل، وهو أمر طبيعي للمجتمع الأردني الذي تنغل فيه المشاعر القومية والإسلامية والوطنية، وتعتبر القضية الفلسطينية مسألة داخلية وأساسية لدى الغالبية العظمى من الأردنيين.
أين تكمن الخلافات؟ في مسائل فرعية متعلقة بالموقف من اعتصاماتٍ في أماكن معينة، من الحدود المفترض أن يصل إليها أو يقف عندها الموقف الأردني الرسمي في مواجهة العدوان الإسرائيلي في غزّة؟ في طبيعة الشعارات والهتافات والنقاشات المتبادلة؟ ولدى بعض الجهات والقوى السياسية في مسألة التداخل والربط بين الملفين، الإقليمي والداخلي، في ما يتعلق بالإسلام السياسي، أي حركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين، التي تمثّل قوة المعارضة الكبرى في البلاد.
هذه خلافات جزئية محدودة، من المفترض أن نعمل جميعاً على احتوائها وعدم إعطائها أكبر من حجمها، مقارنةً أولاً بحجم التوافق والاتفاق على الثوابت والأسس المتعلقة بالموقف الأردني والمصالح الوطنية الأردنية في ما يتعلق بالحرب على غزّة. وثانياً بمواجهة التهديدات الإقليمية والإسرائيلية ضد الأردن، وهي التي تتطلب، بدلاً من التناحر وزيادة مساحة الخلافات وتعظيمها، تعزيز الجبهة الداخلية وتصليبها والاتفاق بين الأطراف السياسية المختلفة على القاعدة الكبرى الصلبة المفترض أن يقف عليها الأردنيون.
من أخطر الأمور التي يمكن اللعب عليها أو التلاعب بها أو توظيفها، سياسات الهوية وتحطيم الجبهة الداخلية، لأنّه في حالٍ كهذه لن يكون هنالك أيّ مستفيد، وسيكون صوت العقل والمنطق متوارياً خجولاً أمام أصوات الغريزة والعاطفة والتجييش، ولعلّ نظرة سريعة إلى المنطقة المحيطة بالأردن ستؤشر لنا على خطورة هذا الموضوع، فالعدو الخارجي أو الاختراق والهيمنة من الآخرين على أيٍّ من الدول المحيطة: العراق، سورية، لبنان، السودان، اليمن... كلها لا تأتي إلّا بعد أن يكون هنالك عوامل داخلية تمهّد الطريق لذلك، وشعب منقسم على نفسه، وقوى تستخدم الهويات لتسويق أجندات أو مصالح شخصية أو فئوية عبر أسهل وأسرع طريقة لحشد الشارع وتوفير شمّاعات لتحميلها مسؤوليات الفشل أو تعزيز أزمة الثقة بين هذا الطرف أو ذاك.
المصلحة الاستراتيجية والأمن الوطني والسلم الداخلي كلها تدفع نحو تعزيز القواسم المشتركة والتوافقات والأهداف التي لا يكاد يختلف عليها أحد، وتحجيم الخلافات البسيطة وتصغيرها، والابتعاد عن لغة التخوين والتشكيك والتحقير؛ بل وتجريم مثل هذا الخطاب الخطير بما يخدمه من أهداف وأغراض لا تمتّ إلى المصالح الوطنية الأردنية بثقة، بل تخدم أهدافاً وأجندة خارجيتين.
من الخطأ، بل الخطيئة، أن تحاول أيٌّ من القوى السياسية الموجودة تسجيل أهداف أو تحقيق غايات سياسية من خلال الضرب على وتر هوياتي؛ أو حتى التشكيك بنيّات الأطراف الأخرى، لأنّ مسألة الثقة والحوار العقلاني والتوافقات الداخلية أسهل وأجدى بكثير من الوقوع فيما وقعت به دول محيطة من كوارث إنسانية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عبر "لعبة الهويات" واستثارة الغرائز.
شكّل الأردن، ولا يزال، نموذجاً استثنائياً في المنطقة؛ فهو نظامٌ مستقر ثابت، يستند إلى قيم راسخة من الانفتاح والاعتدال والوسطية، والتسامح السياسي، وتمثّل علامة تجارية - سياسية تميّز هذا النموذج، وتمكّن الأردن من تجاوز العواصف التاريخية الكبيرة والصمود والعبور، بينما كان كثيرون يتخبطون. لذلك، من الضروري أن يكون هنالك تأطير صحيح ودقيق لحجم الخلافات أو المشكلات أو الأزمات التي يواجهها، والتعامل معها بما يخدم المصالح الوطنية والأرضية المشتركة، لا العكس.