الإجابة تونس .. أم السؤال؟
واقعنا أليم، ولكن علينا أن نفهمه، لا أن نبكي منه أو عليه. كان من السهل، ولم يزل، إدانة الانقلابات، وتسجيل الحضور النضالي في دفاتر العزاء السياسي، ولكن الأوقع أن نسأل: لماذا تنجح الانقلابات؟ لماذا تجد من يناصرها، في الداخل والخارج؟ ساندت الانقلاب العسكري في مصر مؤسسات الدولة كافة، والأزهر والكنيسة في مقدّمتها، أغلب التيارات المدنية، حزب النور السلفي وغيره، ثوار حقيقيون، ومحسوبون على ثورة يناير، وآخرون من أنصار دولة حسني مبارك. بطبيعة الحال، الكلّ اعتبروه خطوةً على الطريق الصحيح، وما زال بعضهم يراه أخفّ الضررين، بتعبير شيخ الأزهر في بيان 3/7/2013، أو ما عرف، فيما بعد، ببيان الانقلاب، فلماذا؟.. لماذا يعد التخلص من الإسلاميين (المنتخبين) أخفّ الضررين، لماذا تكون الديكتاتورية، وحكم الفرد، والقضاء على الحياة السياسية، وسجن الآلاف واعتقالهم، وتشريد الآلاف، وموت الآلاف، وسحق الملايين وإفقارهم وإذلالهم، ومعايرتها اليومية بكوبري هنا أو "كومباوند" هناك، هو أخفّ الضررين... أخفّ من استمرار الإسلاميين... أخفّ من استبدادهم... أخفّ من تصوراتهم... أخفّ من خطاباتهم... أخفّ من سياساتهم… لماذا؟
نجحت التجربة الانقلابية في مصر، واستمرّت، واستقرّت، وحظيت بالتأييد والدعم الإقليمي والدولي. والآن تتكرّر، بتفاصيل مختلفة، في تونس، وشكوك عن تدخل مخابراتي مصري، ويقين، لا يحتاج أدلة، بتدخل إماراتي، حيث تمارس الإمارات، أو إسرائيل الجديدة، وكالتها عن المصالح الغربية في المنطقة، وتنفق المليارات لإفشال أيّ تجربة ديمقراطية. وعلى الرغم من ذلك لا يتعلم أحد، مواطنون تونسيون يحتفلون في الشوارع، وتهانٍ وتبريكات، مكتوبة ومسموعة ومرئية، على "السوشال ميديا". جمع قيس سعيّد كل السلطات في يده، وصار وحده، لا شريك له، "الدولة"، وهو عمل ديكتاتوري، بوضوح، ولو وجد له مظلّة دستورية مزعومة، أو مساندة من الجيش التونسي الذي يبدو أنّه تخلى عن حياده، ودوره الوطني، لأول مرة في تاريخه، وذهب يبحث، بدوره، عن امتيازاته الاقتصادية. والآن، بعيداً عن المزايدات، والمناكفات السياسية، ما زالت أسئلة الواقع لا تجد جواباً "حقيقياً". لماذا وجد قيس سعيّد تأييداً شعبياً، واعتبر قطاع كبير من التوانسة، ولهم الحق في ذلك، أنّ ما حدث هو استجابة لنداءاتهم بضرورة الإصلاح، ورأوا في انقلاب قيس سعيد عملاً ثورياً! وشعبياً! ودستورياً! (الفصل 80)، تماماً كما حدث في مصر؟ هل هو جهل المواطن، أم جهل الساسة بالمواطن؟ والسؤال الأهم: لماذا كان الإسلاميون (المنتخبون بإرادة حرّة وانتخابات نزيهة) هم الجسر الآمن الذي مرّت عليه الأنظمة الاستبدادية، وتجاوزت ثورات الربيع العربي، وعادت أكثر شراسة من قبل، ولم تنجح دولة واحدة، حتى تونس في ما يبدو، في أن تتجاوز هذا المصير؟ لماذا يسهُل الانقلاب على الإسلاميين؟ لماذا ترتفع فاتورة الديمقراطية حين يحكم الإسلاميون؟ لماذا تصبح الديمقراطية عملاً ديكتاتورياً، وتصبح الانقلابات عملاً ثورياً ويصبح حكم الفرد مطلباً شعبياً فقط، حين يتصدّى للحكم فصيل إسلامي، محافظاً كان، كما في مصر، أو إصلاحياً، كما في تونس؟ لماذا يخلق حكم الإسلاميين، بعد عام واحد في مصر وعشر سنوات في تونس، هذا الكمّ من الاستياء والغضب الشديد الذي تصعب السيطرة عليه، ويصل إلى حد القبول بأيّ مصير، مهما بدا سوداوياً ومأساوياً في سبيل الخلاص من حكم الإسلاميين؟
تحتاج الإجابات إلى التجرّد من منطق التناحر الطائفي الذي يحكم الفصائل السياسية في البلدين، ودراسة التجربة من دون تنصّل من المسؤولية، ومن دون تعالٍ على المواطنين الذين دفعوا في التجربتين أكثر مما دفع أطراف الصراع السياسي كافة. ومن دون تبريرات للفشل الصافي والخالص والمركب، ومتعدّد الجبهات، في الإدارة، وفي الخطاب، وفي السياسات، والأهم في فهم الواقع. تكرّرت تجربة الانقلاب في تونس، فهل تتكرّر إجراءات ما بعد الانقلاب؟ يتوقف الأمر على إدارة راشد الغنوشي ورفاقه مرحلة ما بعد الانقلاب، ومدى استفادتهم من تجربة إخوان مصر، وقدرتهم على "التفاهم" و"التفاوض"، بدلاً من الانتحار.