الإسلاميون في الأردن ... تحوّلات أيديولوجية كبيرة
دأبت الدراسات والأبحاث المتخصّصة في الحركات الإسلامية على تبنّي نظرية مفادها بأنّ الإدماج السياسي يؤدّي بالحركات الإسلامية إلى تبنّي خطٍّ معتدل، والعكس صحيح، ووُظّفت هذه القاعدة للتأكيد على أنّ الديمقراطية تعزّز من اعتدال الإسلاميين. وما زلت أذكر ما قاله لي دبلوماسي أميركي (في العام 2005، خلال طرح مبادرة الإدارة الأميركية حينها لنشر الديمقراطية) "لو كانت هنالك ديمقراطية لكان أسامة بن لادن نائباً إسلامياً، وليس إرهابياً مسؤولاً عن قتل آلاف الأميركيين"!
النظرية من حيث الأصل صلبة ومنطقية، ولها مبرّرات عقلانية وواقعية عديدة، لكن هنالك أيضاً نقاش آخر لا يقل قوةً ولا أهميةً، ويتمثّل في أنّ هنالك حالات ديمقراطية قد تعزّز من صعود حركات وأحزاب سياسية متطرّفة ومتشدّدة وشعبوية. ومثال على ذلك نموذج الأحزاب الفاشية والنازية والشعبوية في أوروبا، بينما قد تكون هنالك أنظمة شمولية وديكتاتورية، وتدفع أحزاباً سياسية وحركات إسلامية إلى تقديم خطاباتٍ معتدلة وعقلانية في مواجهة ذلك.
وحتى بالنظر إلى الحركات الإسلامية تاريخياً؛ خاصة جماعة الإخوان المسلمين، وجدنا أن التيارات المعتدلة والبراغماتية والإصلاحية تحظى بقوة ونفوذ داخل هذه الحركات في مراحل التطرّف الرسمي في مواجهتها، بينما عندما تبدأ الجماعات في جني مكاسب وفرص سياسية من انفتاح ديمقراطي أو الثورة، مثلما حدث في مصر على سبيل المثال 2011، فإنّ التيارات المتشدّدة داخل الحركات هي التي تعود لتمسك بمقاليد القيادة، وتُقصي المعتدلين والبراغماتيين.
في الحالة الأردنية، التياران اللذان تبادلا مواقع القيادة والتأثير في أوساط الحركة هما الصقور- القطبيون، والحمائم- البراغماتيون، ثم تشكّل، مع بداية الألفية الثانية، جناح معتدل وآخر متشدّد. ثم بدأت، منذ العام 2013، الانشقاقات تتوالى، وخرج معظم أبناء جناح الحمائم من الإخوان المسلمين، ليشكّلوا حزبي زمزم، والشراكة والإنقاذ، وليبقى الجناح المتشدّد الأقوى نفوذاً وحضوراً في الجماعة والحزب (جبهة العمل الإسلامي)، مع بقاء مجموعة محدودة من المعتدلين في الحركة.
تمثّلت المفاجأة في أنّ الحركة، بشقيها جماعة الإخوان المسلمين التي جرى حظرها قانونياً وحزب جبهة العمل الإسلامي، التي في أزمة مستدامة وقاسية مع الدولة منذ الربيع العربي، ووصلت الأزمة إلى مرحلةٍ غير مسبوقة من البعد والجفاء والشكوك، وأنّها (الحركة الإسلامية) كذلك بعد أن خرج أغلب الجناح المعتدل منها، قدّمت وثيقة سياسية غير مسبوقة (في 2019)، ووصلت إلى مدى بعيد في تطوير الخطاب الأيديولوجي نحو الابتعاد تماماً عن المصطلحات والمفاهيم التقليدية لدى الإسلام السياسي التقليدي، من خلال طرح مفاهيم جديدة بالكلية، كالملَكية الدستورية والدولة الحديثة والديمقراطية التعدّدية والهوية الوطنية الجامعة ومفهوم الجماعة الوطنية، وحكم القانون والمواطنة... إلخ.
ليس من الصعوبة بمكان إدراك حجم التطور والتغير الكبير في هذا الخطاب الأيديولوجي مقارنةً بمراحل سابقة. ومن الواضح أنّ خطاب الحركة الأيديولوجي أحدث قطيعةً مع مرحلة سابقة كانت الحركة متردّدة تجاه هذه المفاهيم.
في الأثناء، أصدرت الحركة الإسلامية أيضاً رؤيتها الاقتصادية (2022)، وللمرة الأولى (بعد وثيقة 2014) يظهر خطاب اقتصادي متخصص، مرتبط بالأرقام والمعرفة الاقتصادية، بعيداً عن الخطاب الإنشائي البسيط السطحي، الذي هيمن على خطاب الإسلاميين إلى العام 2014، إذ كان الشأن الاقتصادي قبل ذلك مهملاً وغير مفكّر فيه، ولا تتجاوز حصته في برنامج الحركة الانتخابي صفحة واحدة مكررة من البرامج السابقة تتحدّث عن تطبيق الشريعة والاقتصاد الإسلامي.
بالنتيجة؛ على الرغم من الأزمة السياسية بين الحركة والنظام، وبالرغم من أنّ جناح الحمائم غادر الحركة بصورة كبيرة، وبالرغم من التراجع في تصنيف الأردن في تقارير الديمقراطية العالمية، فإنّ الحركة الإسلامية تستمرّ في تطوير خطابٍ يبتعد عن الأيديولوجيا التقليدية، ويقترب من الديمقراطية. وليس مبالغة القول إنّ التمييز أيديولوجياً يصعب جداً بين خطاب الحركة وبرامجها، مقارنة بالأحزاب الجديدة (فيما يسمى ما بعد الإسلام السياسي)، بل قد يبدو الإخوان المسلمون في عديد من جوانب الخطاب أكثر ابتعاداً عن الشعارات الدينية من هذه الأحزاب الجديدة، ومن الدولة نفسها التي عادت اليوم إلى توظيف الشعارات والمشاعر والمؤسسات الدينية الرسمية لخدمة الأجندة السياسية؟
ثمة تحولات كبيرة وبنيوية سنكشف عنها في كتاب جديد، أعمل عليه مع الصديق حسن أبو هنية نُصدره قريباً.