07 نوفمبر 2024
الإضحاك سلاح ذو حدين
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
برنامج "جو شو" أخفّ ظلاً، وأفكه ثمراً، من ساعة باسم يوسف الذي كان اختار لها اسما هو البرنامج، والفرق الأكبر أن برنامج باسم يوسف كان سلاحاً بيد السلطة الانقلابية التي كانت تمسك بمفاتيح الدولة. ولم يكن للرئيس المنتخب سوى تلك الصفة الرمزية التي جاءت به الثورة المصرية المغدورة. وقد أسفر البرنامج عن تحطيم هيبة الرئيس المصري المنتخب، وتهشيمها، فالطغاة، مثل السمكرية وبقية أصحاب المهن، يظلون بحاجةٍ إلى أدوات لفك الدولة وتركيبها وقيادة الشعب، وتخديره بشرعة الدين ورياح الفن.
وقعت وقائع جديدة، ولم تعد النكتة شوكةً كما كانت يوما في عصر الاستبداد التقليدي. وكان جمال حمدان قد قال يوماً إن حزب المعارضة الوحيد في مصر هو حزب النكتة. وكان الناقد الروسي باختين قد قال: إنّ الضحك يدمّر الطغيان، لكن ما وقع أن الطغيان دمّر البلاد، بالضحك وبسواه من أسلحة التدمير والمفاسد التي وردت في "طبائع الاستبداد"، وفي غيره من الكتب اللاحقة، فالضحك الذي نضحكه من الطاغية، سرّا أو علانيةً، لم يؤذه كثيرا أو قليلا. وإذا كانت للضحك صفة شفائية فهي العزاء والسلوان، مثل حبة المسكن، تسكّن الألم ولا تشفيه.
فكيف تسخر من الطاغية الزنيم، والطاغية المهرج، هذا لا يجدي نقيراً.
جو شو وهمام حوت وباسم يوسف أجيال من البرامج السياسية الناقدة، وقد امتاز برنامج حوت، وهو يعرض حلقته الثالثة، بعناصر مسرحية وغنائية ولفظية تمتح من جماليات السجع والقافية، بموالح حلبية، ليس لها ذلك المحصول والغلال المنتظرة، لأن الشعب في شدّة وجراح ونزوح وتحولات كبيرة. السخرية لا تنفع كثيرا في معمعة اللهيب والنيران، وطغيان الميزان.
في الأدب: تحولت، عقوبةً، شخصية المهرج إلى وليمة في روايتين، "خريف البطريرك" لماركيز و"كهوف هايدراهودوس" لسليم بركات. كان المهرّج العربي المعاصر، دائما، من أولياء الطاغية العربي، ينتقده في الفيلم، ويؤازره في الواقع. إنه جندي مجنّد من جنود السلطان، ولما أزفت الآزفة، وجدناه في فريق الشعير والسعير: دريد لحام، وباسم ياخور، وأحمد آدم، ومحمد صبحي الذي كنا نراه أكثر التزاما في مسرحه من غيره من الفنانين الظرفاء والساخرين. لما أسفر صبح الثورة قالوا: إنْ هذا إلا سحر يؤثر.
يُقرن الضحك ظلماً بالسعادة. وكان الباحثان الأميركيان، غريغوري وهايوورث، قد وجدا نشأة الضحك في زمن إنسان النياندرتال، عندما كان الأولون يرتحلون في مجموعات للصيد والغزو، فظهر الضحك علامة ارتياح، لدى التغلّب على العدو، أو هربه، أو لدى القضاء على الطريدة. وتوضيحاً يرى "راب" أن أصل الضحك يكمن في الكراهية والعدوان، وهو، في أسّه وجوهره، وحشي الخلق والتكوين. ويعرض المتنبي وجهاً من أوجه الضحك القاسية بقوله: لا تحسبوا أنّ رقصي بينكم طربا.. فالطير يرقص مذبوحا من الألم. وعادة يختم السوريون سهراتهم الضاحكة تطيراً ونذيراً قائلين: الله يعطينا خير هذا الضحك.
السعادة غير الضحك. والضحك أنواع، بعضه يميت القلب، وبعضه يبدد العزيمة ويوهنها، وبعضه يدمّر الشعب والفضائل بدلا من تدمير الطغيان، أكثره يشيده.
عشنا في عصر شديد الظلمة، وكان أكثر العصور التي ضحكنا فيها، ولم نحوّل رحيق الضحك إلى عسل، فالطغاة ينتجون مسلسلاتٍ ضاحكة، ويستخدمون المهرّجين الذين غدوا أبطال عصرهم، لنتذكّر أنّ عادل إمام لقبه الزعيم. قال الساخرون: طلبنا من الله إماما عادلا فأرسل لنا عادل إمام. عصرنا كان ضاحكاً، رجحت فيه كفة الهزل على كفة العمل. كانت البلاد تعيش فيلماً كوميدياً دامياً، والحاصل أن الطاغية هو الذي ما يزال يضحك ويقهقه، وقد دمّر بالضحك وبغيره البلدان. والخلاصة أن كنّاسي الأسى، أمثال جو شو وهمام حوت وغيرهما من مكفكفي طوفان الألم، من أمثال أحمد بحيري وسامي كمال الدين، لا يغبّرون على الطحّان الذي يطحن البلاد طحناً.
وقعت وقائع جديدة، ولم تعد النكتة شوكةً كما كانت يوما في عصر الاستبداد التقليدي. وكان جمال حمدان قد قال يوماً إن حزب المعارضة الوحيد في مصر هو حزب النكتة. وكان الناقد الروسي باختين قد قال: إنّ الضحك يدمّر الطغيان، لكن ما وقع أن الطغيان دمّر البلاد، بالضحك وبسواه من أسلحة التدمير والمفاسد التي وردت في "طبائع الاستبداد"، وفي غيره من الكتب اللاحقة، فالضحك الذي نضحكه من الطاغية، سرّا أو علانيةً، لم يؤذه كثيرا أو قليلا. وإذا كانت للضحك صفة شفائية فهي العزاء والسلوان، مثل حبة المسكن، تسكّن الألم ولا تشفيه.
فكيف تسخر من الطاغية الزنيم، والطاغية المهرج، هذا لا يجدي نقيراً.
جو شو وهمام حوت وباسم يوسف أجيال من البرامج السياسية الناقدة، وقد امتاز برنامج حوت، وهو يعرض حلقته الثالثة، بعناصر مسرحية وغنائية ولفظية تمتح من جماليات السجع والقافية، بموالح حلبية، ليس لها ذلك المحصول والغلال المنتظرة، لأن الشعب في شدّة وجراح ونزوح وتحولات كبيرة. السخرية لا تنفع كثيرا في معمعة اللهيب والنيران، وطغيان الميزان.
في الأدب: تحولت، عقوبةً، شخصية المهرج إلى وليمة في روايتين، "خريف البطريرك" لماركيز و"كهوف هايدراهودوس" لسليم بركات. كان المهرّج العربي المعاصر، دائما، من أولياء الطاغية العربي، ينتقده في الفيلم، ويؤازره في الواقع. إنه جندي مجنّد من جنود السلطان، ولما أزفت الآزفة، وجدناه في فريق الشعير والسعير: دريد لحام، وباسم ياخور، وأحمد آدم، ومحمد صبحي الذي كنا نراه أكثر التزاما في مسرحه من غيره من الفنانين الظرفاء والساخرين. لما أسفر صبح الثورة قالوا: إنْ هذا إلا سحر يؤثر.
يُقرن الضحك ظلماً بالسعادة. وكان الباحثان الأميركيان، غريغوري وهايوورث، قد وجدا نشأة الضحك في زمن إنسان النياندرتال، عندما كان الأولون يرتحلون في مجموعات للصيد والغزو، فظهر الضحك علامة ارتياح، لدى التغلّب على العدو، أو هربه، أو لدى القضاء على الطريدة. وتوضيحاً يرى "راب" أن أصل الضحك يكمن في الكراهية والعدوان، وهو، في أسّه وجوهره، وحشي الخلق والتكوين. ويعرض المتنبي وجهاً من أوجه الضحك القاسية بقوله: لا تحسبوا أنّ رقصي بينكم طربا.. فالطير يرقص مذبوحا من الألم. وعادة يختم السوريون سهراتهم الضاحكة تطيراً ونذيراً قائلين: الله يعطينا خير هذا الضحك.
السعادة غير الضحك. والضحك أنواع، بعضه يميت القلب، وبعضه يبدد العزيمة ويوهنها، وبعضه يدمّر الشعب والفضائل بدلا من تدمير الطغيان، أكثره يشيده.
عشنا في عصر شديد الظلمة، وكان أكثر العصور التي ضحكنا فيها، ولم نحوّل رحيق الضحك إلى عسل، فالطغاة ينتجون مسلسلاتٍ ضاحكة، ويستخدمون المهرّجين الذين غدوا أبطال عصرهم، لنتذكّر أنّ عادل إمام لقبه الزعيم. قال الساخرون: طلبنا من الله إماما عادلا فأرسل لنا عادل إمام. عصرنا كان ضاحكاً، رجحت فيه كفة الهزل على كفة العمل. كانت البلاد تعيش فيلماً كوميدياً دامياً، والحاصل أن الطاغية هو الذي ما يزال يضحك ويقهقه، وقد دمّر بالضحك وبغيره البلدان. والخلاصة أن كنّاسي الأسى، أمثال جو شو وهمام حوت وغيرهما من مكفكفي طوفان الألم، من أمثال أحمد بحيري وسامي كمال الدين، لا يغبّرون على الطحّان الذي يطحن البلاد طحناً.
دلالات
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر
مقالات أخرى
24 أكتوبر 2024
10 أكتوبر 2024
26 سبتمبر 2024