الاختبار العظيم
ليس هناك أشدّ وأقسى على الإنسان من فقدان فلذة كبده. إذا كان هناك ما هو أغلى عليه من روحه ونفسه فهو ابنه بالتأكيد. ولست هنا لكي أؤكد أن الطبيعة البشرية قد جُبلت على حبّ الأبناء وإيثارهم، وأن النص القرآني كان صريحاً حين قال: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا"، لكننا هنا أمام اعتراف غير قابل للنقاش ولا للتقديم أو التأخير؛ أنّ الابن والابنة هما أغلى ما يملكه الإنسان. ولذلك نحن نفاجأ أنّ انتقام بعض الأشرار بعضهم من بعض يكون بقتل ابن الواحد منهم أو إيذائه، لأنهم يعرفون جيداً ويعون تماماً أن المصيبة والوجع سوف يكونان أكبر وأشدّ وقعاً.
والقصص القرآني زاخر بأمثلةٍ توضح حبّ الآباء أبناءهم، فهناك قصّة نوح الذي نادى ابنه نداءً أخيراً وهو يراه يغرق بين الأمواج، فقد كان مُشفقاً عليه ويريد أن يركب معه السفينة لكي ينجو، لكنّ الابن كان مكابراً وظنّ أنّ الجبل سوف يحميه، وهنا يتجلّى ما قالته جدّاتنا إنّ قلوبنا تنفطر على أولادنا، لكنّ قلوبهم قاسية كالحجر علينا، وذلك لا ينفي أننا لا نتوقف عن حبهم والخوف عليهم. ومن القصص التي توضح حبّ الأب لابنه أيضاً قصة يعقوب الذي ابيضّت عيناه من كثرة البكاء على فقدان ولديه، وأولهما يوسف. أما قمّة الخوف على الأبناء فقد كانت في قصّة أم موسى، والتي وضعت ابنها الوليد بيديها في تابوت، وألقته في البحر خوفاً عليه من الموت على يد جنود فرعون، وهي تعرف أنها سوف تفقده، لكنها كانت تأمل أن ينجو ويعيش، حتى لو كان ذلك في كنف امرأة أخرى قد يصل إليها هذا التابوت الصغير الذي يحوي مهجة قلبها وقطعة من روحها.
غرق قبل أيام نجل ممثل كبير في العمر، حسن يوسف، المعروف بمواقفه المتضاربة سياسياً، وشنّه أكثر من هجوم على الإخوان المسلمين، لكن ذلك لم يمنع أن يقدِّم له العزاء كل أب مصري رغم اختلافه معه بتوجّهاته السياسية. يقترب حسن يوسف من عامه التسعين، وفجع بموت أصغر أولاده غرقاً في بحر الساحل الشمالي. وقد تداولت الأخبار صوراً محزنة لموقف الأب الطاعن في السن المكلوم والمصاب. وربما شاءت الأقدار أن يبلغ من العمر مبلغه لكي يدخل في هذا الاختبار العظيم والشاقّ، وهو فقدان الولد، لكي نتأكّد أنّ الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، ولا بد من مفاجآتها وصدماتها. ويبدو أنه كلما طال عمر الإنسان يكون عرضة لفواجع وصدماتٍ غير متوقّعة، وكأنّ الحياة تعلّم المرء ألّا يأمن جانبها، وأنّ الأيام إن سارت رائقة فهي تُخفي ما يكدّرها. ولذلك خوف الإنسان عامة من غدر الزمن حاضر؛ فعندما يجلس جمعٌ يتضاحكون ويتمازحون حتى تنهمر الدموع من عيونهم، فيهتف أحدهم محذّراً ومتداركاً "اللهم اجعله خيراً" فتوقع السيئ وارد. ولذلك طال بهذا الأب العمر لكي يُصاب بهذه الفاجعة التي نأمل له الصبر والسلوان عليها.
اللافت أن الحديث كثر أيضاً عن منطقة الساحل مكاناً لاستجمام الأثرياء في مصر. وهناك إشارات تؤكد أن هذه المنطقة، على الرغم من ارتباطها بأغنياء مصر، فإنّ بحرها غادر، وموجه لا يرحم، ويعلو مثل علوّ الجبال فجأة، فيسحب من يحاول السباحة فيه ولا يعود إلى الشاطئ إلّا جثة هامدة؛ حيث تفشل جهود المُنقذين في إعادة من يُمسك هذا الموج الهادر بتلابيبه. وذكر مصطلح الساحل مؤذٍ وموجع لفقراء مصر الذين لا يحلمون بلفظ هذا المصطلح الذي يعني المنطقة من غرب الإسكندرية مروراً بالعلمين ومرسى مطروح حتى معبر السلّوم، لكن ذلك لا يمنع أن يحمل كل صيف فاجعة غرق لأحد الأثرياء أو أولادهم، والبحر لا يفرّق بين غني وفقير، لكنّه يخطف مع رحيل الصيف الأحبّة تاركاً أحبتهم في وجع واختبار وبلاء عظيم.