البحث عن ورقة
خلال ساعةٍ، كنتُ أسبح في بحر من الأوراق، في غرفتي الصغيرة. وكانت الأدراج المغلقة قد تحوَّلت إلى ألسنة متدلية، في كل ركن حولي، وبرز ما في داخلها، وبدأت أكتشف ما نسيت، وأخفيت، فيما لم أفلح في العثور على ما كنتُ أبحث عنه، وهو ورقة.
لضرورةٍ ما، كنت في المحكمة الشرعية؛ للحصول على أوراق ثبوتية خاصة، تلزم لتحديث بيانات شخصية وعائلية، كل عام. وأمام الموظف المسؤول وقفتُ حائرة، وبعينين لا تخلوان من الرجاء، بعد أن أعلن، في هدوء، فيما كان يوقِّع أوراقا أخرى، أن عليَّ تقديم الورقة الناقصة؛ من أجل أن أنهي معاملاتي. وبعد رجاء العينين واللسان، أخبرني بأنه ينتظر منِّي أن أعود بالورقة الناقصة، في موعدٍ أقصاه نهاية الدوام الحكومي لذلك اليوم.
وهكذا كنت في البيت، أسبح في بحرٍ من الأوراق، القديمة والحديثة والمهترئة والبالية، واللاغية والعديمة القيمة، فيما نصحتني فتاة لطيفة، تجلس أمام باب المحكمة، وتكتب العرائض، ألا أبحث عن الورقة المفقودة، هذا اليوم بالذات؛ لأني لن أعثر عليها، وعليّ أن أعيد البحث عنها، في اليوم التالي. وبالطبع لم يكن أمامي وقت؛ لكي أعمل بنصيحتها، فيما تجاذبت معها حديثا سريعا عن الصبايا الصغيرات في السن اللواتي يصطففن في طابور خلفي؛ من أجل كتابة العرائض الحكومية للمطالبة بالنفقة على الأولاد، أو رفع قضايا الطلاق والتفريق، فضحكت قائلة: ما أراه، يوميًّا، سبَّب لي عقدةً من الزواج..
في غرفتي، سبحتُ فعلًا بين الأوراق، وتساءلتُ بيني وبين نفسي، عن أهمية تلك الأوراق اليوم، وفي هذه اللحظة، وفي أوقاتٍ كثيرةٍ تكون مهملةً في الأدراج، ولا ألتفت إليها. والحقيقة أنني أحتفظ بالأوراق الثبوتية الهامَّة الخاصة بي، وبعائلتي، في حقيبةٍ من القطيفة الحمراء. ولهذه الحقيبة حكاية صغيرة، مثل حكاية الأوراق التي تفقد أهميتها، في لحظةٍ، وتصبح هامَّة، في لحظة أخرى، فقد حصلت عليها ابنتي، ذات يوم، جائزة من المدرسة لتفوُّقها، وتحايلت عليها كثيرا أن نخصّصها للأوراق الثبوتية، ولكنها رفضت، وظلت سنوات تحتفظ بها، ضمن شهادات التقدير والجوائز التي حصلت عليها، وكثيرا ما رفعتْها بين يديها متباهيةً بها، حتى تنازلتْ عنها ذات يوم. وهكذا أصبحتْ مخصَّصة للأوراق الثُّبوتية، ولا أحد من أفراد العائلة يخطئ مكانها.
قلبت محتوياتها ثلاث مرَّات، فوق سريري، وبحثتُ عن الورقة الناقصة، ولم أجدها، وأعدت محتوياتها، في كل مرَّة، وألقيتها في ضجرٍ على الحافّة البعيدة من السرير، وعاودتُ البحث في بحر الأوراق، الأقل أهميةً، وسبحت فيه فعلا، وتساءلتُ بيني وبين نفسي عن سرِّ احتفاظي بهذه الأوراق، وكانت إجابتي: ما بيضر إلا بني آدم.
أعلنت فشلي في العثور على الورقة المطلوبة، وكان عليَّ التوجُّه إلى جهةٍ حكوميةٍ أخرى للحصول على بدل فاقد. والوجهة كانت بعيدة، والانتظار كان طويلا مع رسوم مالية ليست بخسة. وهكذا كان لديَّ ورقة بديلة، توجَّهت بها إلى الموظَّف في المحكمة، قبل انتهاء الدوام، فدسَّها بين الأوراق، ووضع الختم الحكومي على الورقة الثبوتية المطلوبة، وغادرت على عجل.
جمعتُ الأوراق الثبوتية السابحة في غرفتي، وفكَّرت في علم التوثيق الذي ظهر في عصور ما قبل التاريخ، بل وقد اهتمَّت به الأمم الأُمِّية مثل العرب، عن طريق التوثيق بالشِّعْر، مثلًا، وقد تطوَّر التوثيق من الحجري إلى الورقي، إلى الفيلمي، وإلى الضوئي، ومن ثمَّ، ظهر التوثيق الآلي، أو الإلكتروني، ويشكِّل التوثيق أهمية كبرى، في حياة الأمم وحضاراتها المختلفة. وعلى الرغم من التطوُّر المطَّرد بوسائله، إلا أن التوثيق الورقي لا يزال يحتلُّ مكانه، ويتحكَّم في مصائر الناس، ومصالحهم. وحين كنتُ أجمع الأوراق، وأعيد إغلاق الأدراج، لمحتُ أوراقًا قديمة بخطِّ أبي، يوثِّق بها ديونًا لأشخاصٍ قد اقترضوا منه أموالًا، ذات يوم، ثم تحوَّلت الديون إلى هِبَات غير مستردَّة. أما المفاجأة الكبرى فهي أنني عثرتُ على الورقة الضائعة في الحقيبة الحمراء، صباح اليوم التالي، كما أخبرتني الموظَّفة اللطيفة.