البصمة القطرية
انتهى المونديال في قطر من دون حصول ما يعكّر صفو المناسبة، وستظلّ نتائج هذا الحدث وتداعياته حاضرة إلى أمد منظور، وهذا ما نلاحظه في كثير من وسائل الإعلام الدولية التي واكبته منذ البدايات. ومن دون شك سيخضع إلى دراسة وتقييم، من مراكز الدراسات والبحث والهيئات المتخصصة في الرياضة والاقتصاد والسياسة. وما يهم المعنيين في ذلك الدروس التي يمكن استنباطها من التجربة القَطرية، التي تشكل حالة مختلفة عن النسخ السابقة. ومن بين أهم الدروس نجاح التنظيم، الذي استغرق أكثر من عشر سنوات، ليخرُج المهرجان الرياضي بالشكل والمضمون اللذين تابعهما العالم، على مدى شهر من الفُرجة، تحوّلت خلاله الدوحة إلى مدينة للفرح والتنافس والتلاقي بين شعوب من جهات الأرض كافة. وما يبعث على الإعجاب إصرار قطر على المضي بمشروعها حتى برّ النجاح، وصمودها أمام حملاتٍ إعلاميةٍ غربية، وضغوط دولية وعمليات ابتزاز. وفي هذا السياق، يمكن قراءة فشل المقاطعة التي دعت إليها بعض دول أوروبا، مثل فرنسا، التي حضر رئيسها، إيمانويل ماكرون مرتين، إلى الدوحة لمساندة فريق بلاده في مباراتيها مع المغرب والأرجنتين، وقد تعرّض لانتقادات واسعة من الإعلام الذي اعتبر أنه خرق المقاطعة. وكان تفاعل العرب مع المونديال، الذي وصل إلى كل بيت عربي، على نحو تلقائي، بمثابة نجاح إضافي للدوحة التي كانت حريصةً على أن تكون لها بصمتها الخاصة، من خلال إبراز الوجه العربي الحضاري الإنساني لهذه التظاهرة الدولية.
وتستحق المواجهة التي حصلت بين فريقي المغرب وفرنسا مساء الرابع عشر من شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي أكثر من وقفة، ليس لأنها كانت فقط الذروة بالنسبة للجمهور الذي التفّ حول الفريق المغربي، بل يمكن منها تأمل المشهد من زوايا مختلفة، رياضية، ثقافية، اجتماعية، وسياسية. وآخر ما يهم هنا هو حساب الربح والخسارة في المباراة التي حصلت بين فريقين تفصلهما فوارق كثيرة على مستوى موازين القوى. وقد تجاوزت المباراة الرياضة إلى التاريخ والسياسة والثقافة والعنصرية، وهذا طبيعي، لا يشكل مشكلة لباريس والرباط. وعلى الرغم من أن بعض وسائل الإعلام في فرنسا حاولت توظيف المنافسة الكروية، فإن ما نجح هو المشترك بين البلدين، ولذا لم يكن تشجيع فريق المغرب مقتصرا على العرب والأفارقة والمسلمين، بل شاركت فيه أوساط في أوروبا والولايات المتحدة، رأت في الإنجاز المغربي حدثا مهما، لأنه كسر احتكار الفوز في هذه اللعبة. وهذا أمرٌ لا يستهين به الذين يرون العالم بعيونٍ مفتوحة على اتساعها، لأنه يخلخل الصورة النمطية عن هذا الجزء من العالم، المسجون داخل حدودٍ مرسومةٍ بخطوطٍ حمرٍ ممنوع عبورها إلا بجواز سفر خاص من القوى التي تحدّد مصائر الآخرين، وتفرض عليهم أنماط الحكم وإدارة الثروات، وتتدخّل في كل شيء يخصّهم حتى طرق العبادة. وهذه واحدة من المفاجآت التي لم يَحسب أحدٌ حسابها، وتعاكس طرق التفكير السائد، والأهم أنها جاءت من مكان لم يشكّل مصدر تهديد، أو يبعث على الخوف في أي يوم. ولم يكن أحد يظن أن كرة القدم يمكن أن تلهب الرأي العام، وتنعش الهويات إلى هذا القدر، وترفع علم فلسطين في الملاعب على سبيل التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني، وهذا ما أثار المنابر الإعلامية الموالية لإسرائيل في فرنسا ضد المغرب، إلى حد أن بعضها اعتبر الفريق المغربي نسف اتفاقية التطبيع التي وقعتها الحكومة المغربية مع إسرائيل. وبالمقارنة مع دورات سابقة من المونديال، برز البعد السياسي بقوة، وهذا أمر لم يبعد كرة القدم عن وظيفتها، بقدر ما قرّبها من قضايا الناس، بوصفها اللعبة الشعبية الأولى على المستوى الكوني.