عن رمزية المقاوم الفلسطيني

26 أكتوبر 2024
+ الخط -

ليست البطولة أمراً عابراً في حياة الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي، بل هي مسألة باتت تراثاً، يورّث من جيل إلى آخر منذ النكبة عام 1948، كلّما ارتخت القوس خرج أحد من بين الصفوف ليشدها، ويصوّب جيداً، ويطلق السهم، لترتفع العزائم من جديد. ونظراً لانعدام موازين القوى مع العدو، حضرت البطولة رافعةً لمعادلة الصراع طويل الأمد، وصارت، مع الوقت، مرادفاً للتمسّك بالحق والدفاع عن الأرض حتى الشهادة، وعلى هذا اكتسب المقاتل في الميدان، والأسير وراء القضبان، والفلّاح الذي يواجه زحف الاستيطان، رمزية أهّلته لمكانة خاصّة في وجدان أهله وشعبه الصغير والكبير، واستحقّ بذلك وسام التقدير والشجاعة.
ومنذ أولى العمليات الفدائية مع انطلاقة حركة فتح عام 1965، رسم المقاتل في الميدان صورةً لم تهتزّ في عيون الرأي العام، بما فيه العالمي، الذي واكب مراحل تطوّر الصراع مع إسرائيل، ذلك أنه لم يسجل على نفسه أنه تأخّر عن معركة، أو مواجهة وتضحية، وهناك شخصيات اقتربت بأعمالها من الأسطورية، ولا تخلو من هؤلاء الأبطال مرحلة، ولا يحتكرهم فصيل، أو فئة من الشعب، ومن الحقائق المعروفة التنافس على أداء الواجب، وهذا أحد عناصر قوّة الرواية الفلسطينية، وتصعيد الثورة بصورة دائمة، إلى ذروة أعلى، وتجديد دمائها وأساليبها.
لا تقتصر البطولة على القادة العسكريين الذين تصدّروا الصفوف الأولى في كلّ مرحلة من المراحل، بل هي أحد المظاهر التي تأصَّلت في مقاومة عامّة شاملة. هناك مقاومون سجّلوا بطولاتٍ فرديةً في الكثير من المعارك، وبرز هؤلاء في الأعوام الماضية من بين صفوف الشباب حديثي السنّ في الضفة الغربية، الذين استشهد كثيرون منهم في معاركَ دفاعيةٍ التحاميةٍ. وعندما حملوا السلاح كانوا يعرفون مسبقاً أنهم ذاهبون إلى مصير، لن يصبحوا فيه أرقاماً، بل ستكتب أسماؤهم في سجلّ الملحمة الفلسطينية المفتوحة، وأنه كلّما سقط واحد، هناك من سوف يتقدّم ليملأ مكانه، وهذا نهج تواصل منذ عام النكبة، وهو في تعاظم مستمرّ. ورغم حروب التدمير والإبادة، فإن نسل المقاومين الفلسطينيين لم ينقطع، وكلّما هدأت النار عادت لتزداد اشتعالاً، وبرز أبطال جدد، يكملون الطريق الطويل.
رمزية المحارب الفلسطيني في صميم الدفاع عن الأرض والكرامة، والتضحية من أجل استعادة الحقّ، والثبات في وطن الآباء والأجداد، لا يدرك جوهرها أولئك الذين يحاولون تبخيسها والحطّ منها بالإعلاء من شأن الهزيمة وإشاعة الإحباط والضعف أمام القوة. ويحسب أصحاب هذا التوجّه أن تجريد الفلسطيني من حقّه في المقاومة والبطولة، هو الذي يغطّي ويبرّر عجزَ المهزومين والمروّجين للهزيمة، ولذلك يوظّفون موازنات ضخمة في الإعلام والسينما والمسلسلات كي يدمّروا صورةَ المقاوم، ولكن لسوء حظّهم لم تنجح الوصفة، رغم أن آلة الدمار الإسرائيلية لم توفّر وسيلةً من أجل قتل الإحساس بالمقاومة، ولذلك هدمت البيوت والمدارس والمشافي وأحرقت الحقول، وشرّدت أكثر من مليونَين في قطاع غزّة. والثابت أنه يغيب عن بال هؤلاء قوّة الحقّ التي من الصعب أن تنكسر، وهذا منطق التاريخ، الذي أثبت على الدوام أنّ الحق فوق القوّة، رغم أن الطريق إلى ذلك طويل ويزداد صعوبة.
اختلف الفلسطينيون خلال مسيرتهم الكفاحية في أمور عدّة، لكنّهم ظلّوا يتّفقون في مسألتَين أساسيتَين، المقاومة والتحرير، وكلّ من رفع لواءهما حاز على الإجماع والرمزية من فئات الشعب كافّة، بغض النظر عن انتمائه السياسي، أو التضحيات المترتّبة من ذلك، وقد استوعبت النُخَب التي قادت العمل الوطني هذا الدرس، وعملت به بأمانة منذ جيل الشعلة الأولى.

شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
بشير البكر