التضحية بالآخرين ونيكسون بابا
عندما يبحث كاتبٌ ما في الغناء بقصد استخلاص نتائج وأمثولاتٍ وعِبر، يجدُر به التركيز على الأغاني الراقية، فالحديث عن الغناء الهابط سيكون، بلا شك، هابطاً مثله. ولكن أغنية هابطة بعينها، ظهرت خلال الحرب الروسية الأوكرانية، كانت قادرة على استفزاز الحجر، بتفاهتها، وسرعة انتشارها، إذ صار يطلع لنا، حيثما تلفّتنا، فيديو لرجلٍ لم نسمع باسمه من قبل، وأمامه قطيعٌ من الشبّان يرقصون بحماس كالمساطيل، يقول، حرفياً: قَسّي قلبك يا بوتينْ، اهجم وزيد الهجماتْ، شَرّدهم ع فلسطينْ، منتزوج أوكرانياتْ!
أميل إلى أن الغناء "الراقي" إن وجد، أساساً، لكي يتبادل العشّاقُ، من الذكور والإناث، التعبير عن الحب والاشتياق، ويمكن أن يتطور فيدخل في ثناياه وصفٌ لجمال الطبيعة، أو كلامٌ عن الأحاسيس الإنسانية الأخرى، كأن يغنّي أحد المطربين للبيت، والأم، والأخ، والابن، مثل ما فعلت فايزة أحمد، فحملت لقب مطربة الأسرة. ويمكن للغناء، كذلك، أن يستوعب الشعر القديم، كما فعل محمد عبد الوهاب بقصيدة أحمد شوقي "مضناكَ جفاه ومرقدُه"، وفيروز مع أبيات عنترة بن شداد، وأبي نواس، وبعض شعراء الأندلس، أو يقدّم قصيدة من الشعر الحديث، ذات صياغة فلسفية مدهشة، كما عند الرحابنة "رجعتَ في المساء كالقمر المهاجر"، وفيها: وبحضور الخوف، والأسماء، والعناصرْ، وكلِّ ما لا اسْمَ له في الكونْ، أُعلن حبّي لك، واتحادي بحزنِ عينيك..
ولكن مستوى الغناء ينحدر حينما يدخل في عالم السياسة، ولا سيما إذا ذهب باتجاه مديح الرؤساء والملوك والأمراء. تتجلّى خطورة هذا الأمر في أن بعض المبدعين الكبار، مثل عبد الرحمن الأبنودي، وصلاح جاهين، وإسماعيل الحبروك، وكمال الطويل، ومحمد الموجي، وعبد الحليم حافظ، قدّموا إنجازاً باهراً من جهة، وضارّاً من جهة أخرى، فقد تمكّنوا، ببراعتهم الاستثنائية، أن يمرّروا إلى وجدان ملايين الناس فكرة عشق زعيمٍ، لو نَظر إليه الناسُ بعين باردة لشاهدوا من أخطائه وخيباته وتخبّطاته الكثير، مثل ما فعلوا في تمجيد جمال عبد الناصر، أو كما فعل صفوان بهلوان عندما لحّن قصيدة الجواهري في مديح حافظ الأسد، وغنّتها ميّادة الحناوي، وكذلك الحال في الأغاني التي لا تمدح الأشخاص، بل تُظهر لنا أوطاننا عظيمة، ترابُها مشغولٌ بقلوب البشر، كما يقول جوزيف حرب في "إسوارة العروس" التي لحّنها فيلمون وهبي لفيروز، أو كما غنّى عبد الحليم من شعر الأبنودي "أحلف بسماها وترابها"، وكذلك فعل وديع الصافي عندما غنّى لبنان قطعة من السما، ويا ابني بلادك روحك اعطيها.. والشاعر السوري الراحل عيسى أيوب، كتب وغنّى سمير يزبك: يا بلادي خدي شادي، بكر ولادي.. وهذا يتيح لنا أن نتساءل، ببراءة، أو على نحو مقصود: لماذا يضحّي الناس بأبنائهم ولا يضحون بأنفسهم؟ وهل من حقّ الإنسان أن يضحي بأبنائه أصلاً؟ وفي محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات، تجد أن معظم الناس يحبّون التضحية في سبيل الأوطان، ولكن بغيرهم، ثم يعلنون أن حبّ الوطن يفوق حبّ الولد، مثل ما جاء في أغنية إيلي شويري: لا مالي ولا ولادي على حبّك ما في حبيب.
كنتُ، أنا محسوبكم، أبلغ أعالي النشوة حينما أصغي لما اصطُلح على تسميتها "الأغاني الوطنية"، وكانت مكتبتي عامرة بأغاني مارسيل خليفة، وسميح شقير، والشيخ إمام. وأكثر ما يطربني القصائد الشامية التي كتبها الأخطل الصغير وسعيد عقل في تمجيد الشام، ولكنني، منذ مدّة لا يستهان بها، ما عدت أسمح لسجيتي بأن تتغلب على عقلي، ولأول مرة، رحتُ أتساءل عن مغزى ترنّمنا بقصيدة أحمد فؤاد نجم، في هجاء الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، والحكومةِ المصرية التي استقبلته، وفكّرت: عندما يأتي رئيس أكبر دولة ليزور بلدك، فإنه يكرمها، ويقيم لها وزناً، فبأيّ حقّ، أو منطق، تسخر منه، و"تتّرْيَق" عليه؟